كانت شيآن تحمل اسم تشانغآن، وهي عاصمة الصين في عهد أسرة تانغ الملكية. كما هي بداية طريق الحرير المعروف. ونظرا الصين والبلاد العربية قد حافظتا على علاقات حسن الجوار بينهما، فقد كانت تشانغآن مقصد اعداد كبيرة من العرب الذين جاؤوا للتجارة أو للاستيطان. يضاف إلى ذلك أن جماعة من أهل الشيعة الهاربين من اضطهاد الأمويين، وجماعة من المسلمين العرب العسكريين الذين عاونوا أسرة تانغ الملكية في الإطاحة بعصيان آن لو شان، قد استوطنوا هذه المدينة. وقد عرفنا من المصادر العربية أن امبراطور الصين لي يوي من أسرة تانغ قد بنى مسجدا في المدينة سنة 762، مما أتاح للجاليات العربية الإسلامية أن يمارسوا ديانتهم. ومع أن هذه الحادثة غير مذكورة في المصادر الصينية، إلا أن وقوعها ممكن تماما حسب الأحوال آنذاك.
وفي شيآن اليوم أكثر من عشرة مساجد وجوامع. ولكن مسجد"هواجيويه" هو الأكبر من نوعه حجما. وقد سمى هذا الاسم لوقوعه في زقاق هواجيويه غربي برج الطبول بالمدينة وترى في الجامع اعداد كبيرة من الأنصاب الحجرية، ولكن تاريخ بنائه الوارد فيها متعدد. فقد صار من الصعوبة بمكان تمييز الصحيح من الخاطئ. وأرجح الظن أن الأنصاب الخاصة بمسجد هواجيويه قد اختلطت بمثيلاتها الخاصة بالمساجد الأخرى التي طواها الزمان، واختلطت اختلاط الحابل بالنابل بعد نقل أنصابها إلى هذا المسجد اعتزازا بالآثار الإسلامية. ومن جراء ذلك أصبح من الصعب على المرء تمييز أنصاب مسجد هواجيويه من أنصاب المساجد البائدة مع مرور الأيام.
يبدو مسجد هواجيويه على شكل مستطيل. وتبلغ مساحته ثلاثة عشر ألف متر مربع. وهو يشبه القصر الإمبراطوري الصيني بضخامة بنائه وروعة هندسته. فلا يعتبر من أكبر المساجد في الصين فحسب، بل يعد من كنوز الفن المعماري الصيني. ويتكون هذا المسجد من أربع دور متراصة، تتوزع فيها أربع وثمانون غرفة من المباني الرئيسية والإضافية توزعا متناسقا، مما يشكل مجموعة كاملة من البنايات. وللدار الأولى بوابتان جانبيتان، تواجه احداهما الجنوب، بينما تواجه الأخرى الشمال. وتجد في موقع بوابة المسجد حاجزا زخرفيا من الطوب، ارتفاعه أكثر من عشرة أمتار، وعرضه عشرون مترا. وإلى الداخل من الحاجز الزخرفي يقوم قوس خشبي منقوش جيدا. وهو يواجه قاعة مرور مؤدية إلى الدار الثانية التي ينتصب فيها قوس ومقصورتان لاستيعاب الأنصاب الحجرية، تقع احداهما يمينا، وتقع الأخرى شمالا. وللدار الثانية بوابتان أيضا، شأنها شأن الدار الأولى. وهناك قاعة مرور مؤدية إلى الدار الثالثة التي ينتصب في صدارتها برج شاهق معروف باسم "شينغشين"، وعلى جانبيها جناحان جنوبي وشمالي. ولو دخلت إلى الدار الرابعة، للفت نظرك" جوسق العنقاء" الخماسي الأقسام الرائع الهندسة. وهو يواجه قاعة الصلاة الضخمة والبعيدة عنه، مما يرمز إلى " مواجهة العنقاوات الخمس للشمس". أما قاعة الصلاة فتستوعب ألف مصل في آن واحد. وهي صفوة مباني المسجد برمتها. كما هي مرآة ألفن الزخرفي المسجدي في المناطق الداخلية من الصين. وعلى جدرانها نقوش خشبية من الكتابات العربية والأزهار الجميلة، تعطي مع أبوابها وشبابيكها الدقيقة النقش منظرا خلابا. ويتكون سقف القاعة مما يزيد عن ستمائة قطعة من المربعات الملونة، وفي صدارة كل منها كتابات عربية تحيط بها الرسوم الصينية التقليدية من كل الجهات. وأشد ما يلفت النظر هناك مقصورة المحراب وراء عمودين بلون قرمزي، نقشا بكتابات عربية مموهة بالذهب، إضافة إلى أن المربعات الخشبية في أعلى العمودين المذكورين آنفا وعتبة المقصورة العليا ومتدلياتها الخشبية مطعمة بزخارف من كافة الألوان. والمحراب البادى على شكل عقد مخمس ليس مزخرفا بالكتابات العربية فحسب، بل يزدان بالرسوم الصينية الطراز. ويعتبر ذلك خير خليط بين الفن الزخرفي الإسلامي ونظيره التقليدي الصيني. وأمام قاعة الصلاة رصيف فسيح محاط بالدرابزينات الصخرية المخرمة الشهيرة بدقة نقوشها. وتجد في الركن الجنوبي الشرقي من الرصيف صخرة غربية مثلثة الشكل على نحو غير منتظم، قيل أنها محك لنزاهة الموظفين والمسؤولين. فإذا دق أي موظف نزيه مسمارا فيها تسمر فورا. والطريف أن على سطحها أكثر من مائة مسمار، تنتصب تمام الانتصاب. وفي الركن الشمالي من الرصيف صخرة سميت" الفأرة البيضاء" لأنها تبدو كفأرة بيضاء حية عند النظر إليها عن بعد. كما أن في ركن الرصيف الشمالي الشرقي ساعة شمسية مصنوعة من لوح حجري مستطيل، وفي وسط سطحه حفرة مستطيلة لإثبات المزولة. وبالإضافة إلى ذلك ترى على سطح اللوح الحجري ثلاثة صفوف من الثقوب المستطيلة، تستعمل في معرفة الوقت حسب الظلال التي ترميها المزولة عليها. وجدير بالذكر أن اللوح الحجري مثبت على قاعدة صخرية مرتفعة أكثر من متر تحته، فهو قابل للتكييف حسب الحاجة. وتفيدنا مدونات الفلكي الصيني الكبير مي دينغ جيو بأن المساجد الصينية جميعها آنذاك كانت تزهو بالساعات الشمسية المماثلة لها. ولكن ما بقى منها حتى الآن نادر جدا.
وبفضل ضخامة مباني مسجد هواجيويه وكثرة آثاره التاريخية فقد أدرج ضمن قائمة أهم الآثار المحمية على نطاق البلاد، كما أصبح مزارا هاما يرتاده السائحون الذين يقصدون شيآن للمرة الأولى. وبعد أن قامت الصين منذ سنوات بتطبيق سياسة الانفتاح على الخارج، تواردت إلى مسجد هواجيويه جماعات من الضيوف الأجانب الذين يظهرون إعجابهم الشديد به. وكان من بينهم رؤساء دول وحكومات وموظفون كبار كثيرون.