شراكة الصين مع لبنان تنهض به وتخرجه من الريعية

شراكة الصين مع لبنان تنهض به وتخرجه من الريعية

الكاتب : وائل خليل ياسين

- رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والتنمية

- استشاري متخصص بحوث سياسات مجلس الدولة الصيني لشؤون غرب آسيا وشمال أفريقيا

لا يختلف اثنان ان للصين في المنطقة العربية مكانة فيها من الود واواصر العلاقات التاريخية ما يفرض الاحترام كونها تلتزم سياسة عدم التدخل بشؤون الاخرين الداخلية، و تتعاطى مع الدول على اساس الندية، واحترام القوميات والاديان ، والتمسك بقاعدة دعم استقلال الدول، ما اتاح التقدم الكبير في علاقاتها مع الدول العربية وانفتاحها، الذي يشكل فرصة نادرة للعديد من الدول وفي مقدمتها لبنان، فلو استطاع هذا البلد تحقيق شراكة استراتيجية مع الصين من المؤكد انها تنهض به وتنهي أزماته وتخرجه من نفق الريعية التي يتخبط بها منذ عقود، وتضمن مصالحه الاستراتيجية على المدى الطويل كما تمكنه من ترميم سيادته وتحصين أمنه الاجتماعي والاقتصادي، والخروج من دائرة التدخلات الخارجية بشؤونه الداخلية. حيث ان خيار الشراكة الاستراتيجية مع الصين يمكن لبنان من فتح آفق اقتصادية هائلة، ما يكسبه الاستقلالية والتحرر من اي ضغوط اقليمية ودولية مع ضمان عدم سقوطه مجددا تحت هيمنه أي طرف، اذ ان الصين لا تسعى الى نزع النفوذ او اضافة حليف وإنما هدفها تنويع الشراكات ورفع مستوى القدرات والطموح، وتحقيق مشاريع ضخمة على أساس المنفعة المتبادلة.

الواقع أن الصين تولي بالأساس اهتماما كبيراً وواسعاً منذ القدم للعلاقات التاريخية مع الأمتين العربية والاسلامية، ولبنان يعتبراحدى البوابات الاساسية الشاهدة على حقباتطريق الحرير، الذي لم يأت من فراغٍ أو مصلحة من طرفٍ واحد، انما شقٌته إنجازات وتراكمات وثقافات وحضارات عريقة تحاكي الواقع، وتواكب التطورات.

إن القيادة الصينية تنهج مسيرة ثابتة الخطوات لبناء الشراكات والاستفادة من الفرص المشتركة لتعزيز الروابط والمصالح المشتركة مع الجميع ومنهم لبنان،حيث ان الصين تؤكد دائما انها منفتحة على الحوار وتشجيع الشراكات الثنائية وتتطلع إلى العمل المشترك بهدف بلورة صيغة تعزز مسيرة التعاون والشركة بين الصين ولبنان .

ان الصين تلتزم بعلاقاتها سياسة عدم التدخل بشؤون الاخرين الداخلية، وتتعاطى مع الدول على اساس الندية من دولة الى دولة بغض النظرعن اختلاف انظمة الحكم اوهوية الجهات السياسية الحاكمة، فالصين تنطلق بعلاقاتها مع الدول معتمدة مبادئها الوطنية والقومية، وهي تتمسك بمبادئها الداعية لدعم استقلال الدول ، اذ ان الصينيون جربوا الاستعمار وويلاته، ومع لبنان تنطلق في تعاملها من المبادىء الخمسة للتعايش السلمي التي تدعو اليها على قاعدة :

١- الاحترام المتبادل للسيادة .

٢- وحدة الاراضي و عدم الاعتداء على الآخرين .

٣- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى .

٤- المساواة و المنفعة المتبادلة .

٥- التعايش السلمي بغض النظر عن اختلاف الأنظمة السياسية".

ان موقف الصين تجاه لبنان ثابت وواضح ومتوازي، فهي مع الجميع ولا تدعم اي جهة لبنانية على حساب جهة اخرى ولا تغلب طرف على آخر، وتعتبر لبنان محطة محورية هامة تاريخيا وحلقة حيوية في مبادرة الحزام والطريق في المرحلة المعاصرة، وتأخذ بعين الاعتبار أهمية صيغة التنوع والتعدد الذي يمتاز بها لبنان، كما تقدر دوره التاريخي بحكم موقعه الاستراتيجي وعلاقاته العربية والدولية بحكم انتشار ابنائه عالمياً وتنظر للبنان كساحة للتلاقي وجسرا للتواصل و مركزا للتشارك بين الشعوب ، كما ان الصين لا تسعى للهيمنة او نزع النفوذ ولا لعرقلة او تخريب علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع اي جهة اقليمية او دولية بل تتمنى للبنان الأمن والاستقرار والازدهار.

ان الصين تعتبر الدول العربية ومنها لبنان شريكا مهما لها وهي تسلك بخطوات ثابتة طريق التنمية السلمية في مساعيها لتعزيز التضامن والتعاون مع الدول النامية وإقامة علاقة دولية من نوع جديد تتمحورعلى التعاون والكسب المشترك. كما انها تنظر دائما إلى العلاقات الصينية العربية من الزاوية الاستراتيجية، وتلتزم سياسة الصين الخارجية الطويلة الأمد بتوطيد وتعميق الصداقة التقليدية مع الدول العربية ، كما تلتزم الصين بالفهم الصحيح للمسؤولية الأخلاقية والمصلحة للربط الوثيق بين الجهود الهادفة إلى تعزيز السلام والاستقرار والتنمية في الدول العربية والجهود الرامية إلى تحقيق تنمية أفضل في الصين، وذلك من أجل الكسب المشترك والتنمية المشتركة من خلال التعاون وبالتالي استشراف آفاق أكثر إشراقا لعلاقات التعاون الاستراتيجي بين الصين والدول العربية.

فالتزام الصين مع دول الشرق الاوسط عامة ينطلق من مبدء الشراكة مع الجميع على قاعدة"الشراكة وعدم الانحياز". فهي ترفض مفهوم الأحلاف وانشاء التكتلات، لان الصين بتعاملاتها تعتمد الاخلاق وقد رفضت عبرالتاريخ مسألة إنشاء الأحلاف العسكرية والإنخراط فيها، كونها تحمل عقلية الحرب الباردة وتعززاحتمالية حدوث التوترات والحروب، وهذا ما يتناقض مع استراتيجيتها وهي تفضل بالمقابل التركيزعلى بناء شبكة واسعة من الشراكات الإستراتيجية وترفض مفهوم تنصيب الوكلاء و فرض النفوذ، وهذا ما أكده الرئيس الصيني شي جين بينغ في مقر جامعة الدول العربية عام 2016 حيث قال : إن الصين لا تقوم بتنصيب الوكلاء في الشرق الأوسط، ولا تنتزع ما يسمى بـ"مجال النفوذ" من أي احد ولا تنوي "ملء الفراغ ".

كما ان الصين تسعى دائما لدعم الاستقرار واحلال السلام في الشرق الأوسط، وهي على استعداد دائم للعب الدور البناء في هذا السبيل، وتحث بشكل مستمر جميع الاطراف على حل النزاعات عبر الحوار والاطر السلمية انطلاقا من مقررات مجلس الامن ذات الصلة التزاما منها بالشرعية الدولية وسيادة القانون، وهذا ما تؤكده دائما في المحافل الدولية وفي هذا الصدد طرح عضو مجلس الدولة وزير خارجية الصين وانغ يي مبادرة صينية بهدف تحقيق الأمن والإستقرارفي الشرق الأوسط والتي نصت بنودها على خمس نقاط هي :

أولا-الدعوة إلى الإحترام المتبادل واعتمد هذا المبدء اساس للتعاملات بين دول المنطقة ووجوب احترام جميع دول العالم لخيارات هذه الدول و شعوبها .

ثانيا-الالتزام بالإنصاف والعدالة اساسا لحل النزاعات و القضية الفلسطينية واعتبار حل الدولتين هو القاعدة الاساس لها عن طريق المفاوضات .

ثالثاتحقيق عدم انتشارالأسلحة النووية و السعي لعودة سريعة للاتفاق النووي الايراني .

رابعاالعمل سويا على تحقيق الامن الجماعي عبرالسعي  لحل النزاعات ووضع اطار امني مشترك في المنطقة يؤدي الى الاستقرار .

خامسا- تسريع وتيرة التنمية والتعاون.

يمرالعالم اليوم بتغيرات كبيرة حيث ان الوضع الدولي الراهن معقد ومتقلب، ويواجه العالم وكل من الصين ولبنان أزمات كبرى ما يحتم مهاما وكفاحا مشتركا لمواجهة التحديات لتاريخية التي نتجت عما رسخه الغرب خلال مئات السنيين من الاحتلال والاستعمار كواقعا سياسيا دولياً صُنع بناء على "مفهوم الهيمنة"و  "المعايير المزدوجة الغربية"، والتي كرست مفاهيم سياسية واجتماعية صممت خصيصاً لمواصلة هيمنة الولايات المتحدة والغرب على الخطاب الدولي واحتواء البلدان النامية.

اما اليوم ومن خلال النهضة الجماعية للدول النامية وفي مقدمتها الصين ودول الشرق الأوسط ومنها لبنان، فان العالم بدأ يشهد تغيرات كبيرة لم نشهدها منذ قرن من الزمان تُسرع من إعادة كتابة الواقع السياسي الدولي "المتمركز حول الغرب" مما يعيد للشعوب حقوقها عبر ترسيخ مفهاهيم جديدة قائمة على التعددية والتعاون بهدف بناء مستقبل مشترك أفضل للبشرية جمعاء .

كما أثبتت نتائج التعاون والسعي المشترك لمستقبل افضل للبشرية على اساس " المنفعة المتبادلة " و "الربح المشترك "، مدى حاجة العالم الى "الحزام والطريق"، والى التجارة غير المقيدة والممر الآمن للصادرات والواردات والتعاون في مجال التكنولوجيا الفائقة.

ومن هذا المنطلق نرى ان على السياسيين اللبنانيين بكافة أطيافهم ان يدركوا جيداً أن النظام العالمي يتغير، ووجهته هي الشرق كونه مركز الثقل الاقتصادي العالمي وصعود الصين يرشحها لأن تقود هذا التحول وعلى القادة اللبنانيين ان يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية وان يتوقفوا عن تحويل لبنان لساحة تصفية الحسابات وان يرفضوا ان يكون لبنان صندوق بريد لتوجيه الرسائل الاقليمية والدولية وان يلتزموا بان يكون لبنان ساحة لتلاقي الأمم و الأديان وجسر عبور بين الشرق والغرب .

من أجل حماية لبنان ومصالحه وبهدف انهاء أزماته، لا بد من اجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية فعالة تعزز الثقة بالنفس والاستقلالية وتعيد الثقة العربية والدولية، وهذا لا يمكن تحقيقه الا باتباع سياسة الحياد التام عن النزاعات الاقليمية والدولية مع التأكيد على حق لبنان ياستخدام كل الوسائل لحماية حقوقه وثرواته، واتباع مبدأ الانفتاح على الجميع والشراكة والاستثمار مع الجميع بدون انحياز. وانطلاقا من كون لبنان عربي الهوية والانتماء فعلى لبنان  الاتزام بمساندة القضايا العربية ضمن اطار جامعة الدول العربية مثيله مثيل أشقائه العرب، وحفاظا على امنه واستقراره يجب على لبنان التمسك بالسلم الأهلي وسيادة القانون، وبالشرعية الدولية وقراراتها الداعمة لحقوقه وسيادته والسعي لتطبيقها كونها تحصن سيادته وتحمي ثرواته، وبذلك يضمن لبنان عدم تعرضه للمخاطر والتفكك والانهيار ويحفظه من الزول، لأن لبنان خاصة ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام قد عانت كثيراً من العوامل الجيوسياسية المتقلبة والحروب على مدى الخمسين عامًا الماضية وتأثرت كياناتها واقتصاداتها سلبًا نتيجة لذلك. وعلى لبنان أيضاً أن يضمن الا يكون طرفاً من أطراف الصراعات، أو أن ينحاز إلى أي طرف، وأن يعمل على ضمان أن لا يكون له او لاي طرف لبناني دورا مسببا لتصاعد النزاعات والوصول إلى صراع عسكري.

ودعما للاستقرار وللشرعية الدولية، تؤكد الصين انها ستصون دوما السلام العالمي، وستساهم دوما في التنمية العالمية، وستدافع دوما عن النظام الدولي. وتجاه لبنان ستواصل الصين كالمعتاد دعم لبنان في صيانة سيادته واستقلاله وسلامة أراضيه، وتعزيز الدعم المتبادل والتعاون مع لبنان في الشؤون الدولية والإقليمية، والعمل المشترك معه على صيانة العدالة الدولية والتعددية والتجارة الحرة، وتشجيع التباحث حول سبل تعزيز التعاون العملي على أساس "المنفعة المتبادلة" في إطار تشارك الجانبين في بناءالحزام والطريق"، وهذا ما أكده سعادة السفير الصيني الصديق تشيان مين جيان مؤخرا في تصاريحه والتي اكد فيها ايضا ان الجانب الصيني سيواصل تقديم ما في وسعه من المساعدات إلى الجانب اللبناني، والمشاركة الفعالة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان ودعم الشعب اللبناني للعمل معا بروح الفريق الواحد، والتضامن في تجاوز الصعوبات العابرة، وتقديم مساهمات أكبر في إقامة المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك.

 

بيان الخصوصية وسياسة ملفات تعريف الارتباط

من خلال الاستمرار في تصفح موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط ، وسياسة الخصوصية المنقحة .يمكنك تغيير إعدادات ملفات تعريف الارتباط من خلال متصفحك .
أوافق