CRI Online

مدينة شيآن أول مدينة دخلها الإسلام في الصين

cri       (GMT+08:00) 2013-06-25 16:09:31


مينة شيآن

بقلم عباس جواد كديمي

تشير السجلات التاريخية الصينية إلى أن الإسلام دخل الصين عام 651 للميلاد، خلال عهد أسرتي تانغ وسونغ(618-1279)، والفضل في ذلك يعود لله تعالى ثم لجهود الخيّرين، وللتبادلات التجارية عبر طريق الحرير التاريخي الشهير، والعلاقات الناجمة عنها. لم يحمل التجار العرب بضائع يبيعونها أو يشترونها فحسب، بل نقلوا أيضا ثقافات وفلسفات ومفاهيم ومعتقدات، وتعرفوا على الصينيين وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم. ولحسن الحظ، أن الثقافتين الصينية والعربية متشابهتان من حيث الجوهر، ولهما مكانة هامة في الحضارة البشرية وتأثير ملموس عالميا. ولهذا كان التفاهم والتقبل بينهما إيجابيا وتكامليا، حيث تعرف العرب أكثر على الصين وحضارتها، وتقبل الصينيون بمناطق الشمال الغربي، التي شهدت كثافة في تعاملات العرب المسلمين، المفاهيمَ الإسلامية ومبادئ الدين الحنيف. وقبل الفترة ما بين القرن العاشر والقرن الثامن عشر، وبعدها، أخذت بعض القوميات الصينية بمناطق شمال غربي البلاد، تعتنق الإسلام، وهذه القوميات هي: هوي والويغور والقازاق والقرغيز والأوزبك والتتار والطاجيك ودونغشيانغ وسالار وباوآن. حاليا، يصل عدد المسلمين في الصين لأكثر من 20 مليون نسمة، ينتشرون في أرجاء البلاد، ويفضلون أيضا السكن متجمعين بمناطق معينة. ولذلك، ظهرت تجمعات مشهورة لهم، منها على سبيل المثال لا الحصر، منطقة نيوجيه ومسجدها التاريخي الشهير الذي بُني عام 996 ميلادي، في بكين (نيوجيه تعني شارع البقر، دلالة على اللحم الحلال). في الصين حاليا أكثر من 35 ألف مسجد بُنيت بفترات تاريخية متباينة، بأحجام مختلفة، وتنتشر في أماكن سكن المسلمين في أرجاء الصين، وتتميز بالخصائص المعمارية العربية والفن المعماري لمختلف القوميات الصينية، وتعتبر جزءا هاما من الفن المعماري الصيني. أهمها من الناحية التاريخية أربعة مساجد هي هوايشنغ(الحنين إلى النبي) في قوانغتشو جنوبي الصين، ومسجد تشينغجينغ في تشيوانتشو(مدينة الزيتون) بفوجيان جنوب شرقي الصين، ومسجد شيانخه (طائر الكركي) في يانغتشو بمقاطعة جيانغسو الساحلية شرقي الصين، ومسجد فنغهوانغ(العنقاء) في هانغتشو بمقاطعة تشجيانغ، جنوب شرقي الصين.

عندما توجه التجار العرب إلى الصين للبيع والشراء، حملوا معهم أيضا تلك الأخلاق الحميدة التي أوصى بها الله سبحانه ورسوله الكريم، وحرصوا على التعامل الصادق والنزيه مع المحليين الذين استقبلوهم بودٍ كزوار قادمين من بعيد. لقد حرص التجار العرب على كل ما من شأنه عدم مضايقة المحليين، خاصة الباعة والتجار، حتى لا تكون هناك منافسة غير مرغوب فيها. حدّثني رجل صيني مسلم كبير السن في مدينة شيآن قائلا: "عندما كان التجار العرب ينزلون إلى السوق، كانوا يحرصون على عدم منافسة الباعة المحليين، ويعطونهم الفرصة الكافية لبيع بضائعهم، ثم يطرحون بضائعهم التي كانت تتميز بالجودة والندرة. ويتهافت عليها المشترون المحليون وتباع بوقت قصير. وكان المحليون يراقبون تلك التصرفات، فأعجبوا بما لدى التجار العرب من أخلاق حميدة سواء في التعامل التجاري أو الإنساني، وحرصهم على البيع والشراء في بيئة نزيهة تماما. وبالطبع، حصلت تعاملات وتبادلات وتعارفات، وتأكد المحليون أن الدافع الأساسي لهذه الأخلاق الحميدة هو عوامل مرتبطة أولا بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف ثم بالتقاليد الأصيلة. فتقرب الصينيون المحليون أكثر فأكثر من العرب، وتطورت علاقات الجانبين كثيرا، ووصلت إلى المصاهرة والإنجاب والعلاقات الاجتماعية الوثيقة الأخرى. ومما يتذكره هذا الشيخ الجليل أيضا عادات الطعام التي نقلها العرب إلى شيآن، وخاصة أكلة مُحببة ومشهورة حاليا في المدينة، وسائر مناطق الصين الأخرى، ألا وهي طبق باومو. هذه الأكلة أو هذا الطبق، تشبه الثريد أو الخبز المغموس بحساء اللحم. لقد كان من الطبيعي أن يحمل التجار العرب معهم خلال رحلاتهم الطويلة، بعض الخبز الجاف، الذي يتحمل الفترة الطويلة للرحلات. وبعدما يجف، لا بدّ من غمسه بحساء، حتى يمكن تناوله طريًا. كان أبناء شيآن المحليون يراقبون العرب وهم يغمسون الخبز الجاف بالحساء المغلي، ومن الطبيعي أن يتشاطروا الطعام مع بعضهم البعض، فأعجبوا بنكهته وغنى الحساء بنكهة وطعم اللحم، خاصة لحم الغنم والبقر، فذاع صيت هذه الأكلة وانتشرت بين المحليين وفي سائر المنطقة، ثم انتشرت في أرجاء الصين. وحساء اللحم المغلي هذا، يسمى باللهجة الشيآنية المحلية: توتوما، وهي مأخوذة من الكلمة العربية: طعامُ. يقول المحليون إن العرب كانوا يدعون أصدقائهم لتشاطر الطعام فيقولون: تفضل، طعامُ، طعامُ. وهكذا، اكتسبت الكلمة لهجة محلية فأضحت توتوما. الطبق(باومو) هو اليوم علامة مميزة لشيآن حاضرة مقاطعة شنشي، إلى جانب تحفة تاريخية شهيرة عالميا تحتضنها هذه المقاطعة هي تماثيل الجنود والخيول الصلصالية(تماثيل التريكوتا)، الموضوعة ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي لليونيسكو.

شيآن لا أروع منها مدينة تاريخية يرتبط اسمها بدخول الإسلام إلى الصين! ولا أشهر منها كونها بداية طريق الحرير البري الذي ربط الصين بالعالم، خاصة العالم العربي والإسلامي، وهو أحد طريقين هامين، إلى جانب البحري، لدخول الإسلام إلى الصين قبل أكثر من 1350 سنة. هذه المدينة تتميز بموقع جغرافي هام وبيئة ممتازة، أهلتها لتكون عاصمة لثلاث عشرة إمبراطورية في تاريخ الصين.

هي المدينة التي تحتضن عشرات المساجد المبنية بالطوب والخشب، وبالأسلوب الكلاسيكي الصيني، والمحتوية على المزايا الإسلامية الواضحة، والمحفوظة جيدا حتى الآن رغم بناء بعضها قبل أكثر من 1300 سنة. هناك المسجد الكبير للمدينة، ويا سبحان الله! رائع بكل معنى الكلمة! ومسجد شياو بييوان، الذي شهد ولادة التعليم المسجدي في الصين على يد الشيخ الجليل هو دنغ تشو رحمه الله(1522-1597)، علما أن للتعليم المسجدي دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية الإسلامية وتطور الإسلام بخصائصه الصينية واستمراره، إلى جانب التعليم الإسلامي بالمدارس والمعاهد الحديثة باللغتين العربية والصينية. وجامع زقاق داشيويه شي- الاسم يعني الزقاق الكبير لطلبُ العلمِ، الذي يقال إنه بُني في نفس العام الذي وصل فيه مبعوث الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، إلى الصين. وإمامُه الشيخ حسن ما، كان مترجما للبحار المسلم الصيني الشهير تشنغ خه الذي أبحر بسفنه 7 مرات بأمر من الإمبراطور تشنغ تسو لأسرة مينغ (1368-1644) للتعرف على مناطق غربي آسيا، ووصل إلى مكة المكرمة، ورسم خريطة لها.

هي مساجد أي ما يُقال عنها إنها تحفٌ معمارية عريقة ما زالت مآذنها تردد اسم الله تعالى، وتقام الصلاة في جنباتها، وعلى جدرانها آيات مباركة من الذكر الحكيم كتبت بيد علماء مسلمين صينيين جليلين قبل مئات السنين. وفي قلب المدينة النابض بالحياة، تتجلى الخصائص الإسلامية بأروع وأوضح صورة على وجوه المسلمين الصينيين، وفي أزياء رجالهم النظيفة الأنيقة المتوجة بطاقية الرأس البيضاء، وملابس نسائهم المحتشمة المزينة بغطاء الرأس الساتر لمعظم الجزء العلوي من الجسم. أما تحية الإسلام "السلام عليكم" فتسمع ويتردد صداها في أركان تلك الشوارع الحيوية المميزة بطابع العديد من أسواق مدننا العربية. مسلمو شيآن يتميزون بحيوية واضحة في الأعمال التجارية، وفي ظل سياسة الانفتاح الحالية للصين، يبدعون في أعمالهم ويتشاطرون ثمار التنمية مع إخوانهم من أبناء البلاد.

وبين العراقة التاريخية والرائحة العبقة المباركة لهذه المدينة ومساجدها التاريخية المتميزة بتراث معماري يجمع بين الطرازين الصيني والعربي الإسلامي، تأخذك الخطوات الوئيدة الحذرة لتمرّ بين أسواق وأزقة تاريخية وملامح طيبة، ثم تدلف لمساجد تتميز بمساحات واسعة تمتد لآلاف الأمتار، فيها أشجار وارفة الخضرة والظلال، وتضم قاعات التعليم المسجدي وأبراج مآذن وجواسق ومكتبات ومرافق وضوء، وبعدها تأخذك الخطى إلى حرم الصلاة الآمن الهادئ المميّز بقدسية خصّها الله سبحانه لبيوته! ويا لها من قدسية رائعة تجعل المصلي خاشعا في حضرة الخالق البديع وقدسية المكان المضمخ برائحة التاريخ وقدسية الآيات القرآنية التي تحيط بكل ركن من أركان الحرم، وأسماء الله الحسنى تنتشر في كل مكان!

في كل ركن من هذه المساجد المباركة، بصمات لرجال أفذاذ صدقوا في دينهم ودنياهم، فتركوا أثرا خالدا مباركا إلى يوم الدين!


1 2
أخبار متعلقة
تعليقات
تعلم اللغة الصينية
حول القسم العربي