CRI Online

المسيرة الطويلة .. ملحمة إنسانية خالدة

cri       (GMT+08:00) 2016-11-04 14:10:53


الأستاذ صلاح أبو زيد

بقلم صلاح أبو زيد

لست من هواة الفن الأوبرالي، أو الذين يسعون وراءه، أو يحاولون فك طلاسمه، ربما لأن ذائقتي لا تسيغه، أو لأنني لا أفهم منه كثيراً أو قليلاً .

وحين سلمتني مديرة القسم العربي بإذاعة الصين الدولية دعوة لحضور عمل فني أوبرالي عن المسيرة الطويلة، بالمركز القومي للفنون في ميدان تيان آن مي ( ميدان السلام السماوي) بقلب العاصمة الصينية بكين، بقيت مُحيراً بين الذهاب في جو بارد اتخفضت فيه درجات الحرارة إلى ما فوق الصفر بقليل أو البقاء في البيت حيث الدفء والهدوء ..

وكان من حسن حظي أنني قررت الذهاب، قائلاً: فلتكن تجربة جديدة، ربما نستمع بها ..

بدايةً حين يعبر المرء الفناء الرحب المحيط بمركز الفنون، لا يملك إلا الإعجاب بذلك المبنى الفخم بتكوينه الهندسي الخلاق وقبته الجميلة، ثم حين يدلف إلى داخل المبنى عابراً بوابات التدقيق الأمني حتى يتسلل إليه شعور بالسكينة، فالهدوء يعم المكان، حيث لا تسمع إلا أصداء موسيقى خافتة تنبعث من سماعات مبثوثة هنا وهناك، وقد وصلت بعد بدء العرض الفني بقليل، وحين قادني أحد الموظفين العاملين في المركز إلى مقعدي مستعيناً بكشاف صغير استطعت أن ألمح عبر نوره الخافت أن المكان كامل العدد أو كومبليت كما يقولون ..

فوق مسرح صغير ربما لا تتجاوز مساحته مائة متر مربع صال وجال عشرات الفنانين تمثيلاً وغناءً بديعين ممزوجين بالعاطفة الصادقة مستحضرين أحداث وروح تلك الملحمة، التي سطرها الجيش الأحمر بالعرق والدم، والتي تمثل نقطة فارقة في تاريخ الصين المعاصر.

أصوات عذبة تنطلق في براعة وقوة تعلن أن الهزيمة ليست شيئاً مهماً وأن السقوط ليس نهاية العالم، فما دامت هناك عزيمة، وما دامت هناك إرادة، سيتحقق النصر في نهاية المطاف ..

فنانون يتجاوز عددهم العشرات يتحركون في رشاقة ودقة مدهشة، لا يخطئون ولا يتلعثمون، ولا تتداخل أصواتهم إلا لضرورة فنية، وكأن هناك حاسباً آلياً يقود كل واحد منهم ..

وديكورات مصنوعة بعناية يحركها خبراء في سرعة وعناية فائقتين، مناظر للقرى والأنهار والجبال تتماهى مع حركات الممثلين على خشبة المسرح، وكأنها حقيقية ، وكأننا نستطيع أن نلمسها بأيدينا .

وفرقة موسيقية تقبع في مقدمة الصالة أسفل المسرح تعزف في براعة موسيقى تبعث الدفء في النفس حيناً، وتوقظ كوامن الحماسة في الروح حيناً آخر، أو تثير الشجن في الوجدان.

ثلاث ساعات من المتعة الخالصة تخللتها استراحة قصيرة في حضرة عمل فني أخاذ يعبر في بلاغة عن المسيرة الطويلة، التي تتجلى فيها سمات الإنسان الصيني الأصيلة، الذي يحفر في الصخر، ولا يتراجع مهما كانت التحديات ..

ربما ينسحب، ولكنه لا يغادر الميدان، يلتقط أنفاسه ليعيد الكرة، ولا يتنازل عن الانتصار .

والمسيرة الطويلة – لمن لا يعرف – جوهرة من جواهر التاريخ الصيني المعاصر..

هي مناورة عسكرية ضخمة قام بها الجيش الأحمر للعمال والفلاحين للحزب الشيوعي الصيني، خلال الفترة من أكتوبر 1934 إلى أكتوبر 1936م

وعبر هذه المناورة قطع أكثر من مائة وخمسين ألف مقاتل آلاف الكيلو مترات ( تقدرها بعض المصادر التاريخية بأكثر من 12500 كيلو متر)، عبر الجبال والأودية والوهاد والثلوج والأوحال والأنهار، وفي ظل ظروف مناخية قاسية ومتغيرة من موسم إلى موسم .

مناورة تعد بلا شك فصلاً خالداً في التاريخ العسكري على مستوى العالم.

ففي بداية ثلاثينات القرن الماضي خاض الجيش الأحمر العديد من المعارك ضد جيوش حكومة الكيومنتانغ، وعندما دخلت اليابان الصين عام 1932، أعلن الحزب الشيوعي الصيني الحرب ضد المحتلين.

لكن حكومة تشيانغ كاي تشيك بدلاً من أن تشارك في مقاومة العدو، هاجمت جنود الجيش الاحمر، بل وحشدت في سنة 1933 مئات الآلاف من الجنود، مدعومين بأحدث الأسلحة للقضاء المبرم على الجيش الأحمر، وكل ذلك بدعم من دول الغرب الاستعمارية .

ونتيجة لهذه الضغوط الهائلة قام الزعيم ماوتسي تونغ في أكتوبر 1934 بتنفيذ تراجع إستراتيجي من إقليم جانغتشي في الجنوب، إلى شنشي شمال البلاد، ليشكل ذلك نقطة مفصلية في الثورة الصينية .

كان الجيش الأحمر الذي يتكون من العمال والفلاحين قد أرهقته المعارك المتواصلة بمواجهة جنود مدربين وأسلحة حديثة فتاكة تأتي من مصانعها في الغرب لتطلق حممها على الجنود، الذين لا يملكون إلا شجاعة القلب وبنادقهم التقليدية ..

كانت المسيرة الطويلة اختباراً لانضباط الجنود وحسم قادتهم، فلم تمتد أيديهم إلى شيء مما في أيدي الفلاحين، ولم يعتدوا على أحد، وأحسنوا معاملة الأسرى، فنالوا إعجاب الفلاحين الذين كانوا يرزحون تحت نير الإقطاع الظالم .

وقد انحاز الملايين من هؤلاء الفلاحين إلى العمل الثوري فيما بعد، ومثلوا مخزناً إستراتيجياً للجيش الأحمر .

كان الجنود ينامون وهم واقفون، يتكئون على بنادقهم ليغمضوا أعينهم قليلاً ثم ينطلقوا .

وتعرضوا لهجمات شرسة من قوات الكومينتانغ، وقتل الكثيرون منهم .

وكانت أشد مراحل المسيرة الطويلة خطراً وإدهاشاً هي عبور نهر دادو، حيث كانت فيالق الكومينتانغ قابعة بانتظار جنود الجيش الأحمر،

كان عبور النهر يتم من خلال جسر خشبي قديم مقام على عدد من السلاسل الحديدية ..

وكان جنود الكومينتانغ قد دمروا نصف الجسر، وتركوا نصفه الآخر ليكون مصيدة قاتلة للجيش الأحمر، كانوا يكمنون على الضفة الأخرى للنهر، وهم يظنون أن الفريسة قريبة من مخالبهم، وأنهم سيقضون بعد قليل على الجيش الأحمر..

المثير للدهشة أن عشرات الجنود الفدائيين تدافعوا لعبور الجسر غير عابئين بالرصاص أو بكمائن الموت التي تنتظرهم، سقط بعضهم في النهر وقتل بعضهم، حتى وصل نفر منهم إلى الضفة الأخرى، وهاجموا قوات الكومينتانغ في بسالة نادرة، وشكلوا حائط صد حتى عبر الآخرون .

كان الأشد إثارة للدهشة ليس عبور الجيش الأحمر للجسر، بل فرار جنود الكومينتانغ مذعورين، تاركين أسلحتهم وراءهم..

كان النصر هنا مكتوباً للأكثر استحقاقاً له .. كان مقدراً لقوة القلب والشجاعة والتمسك بالمبادئ .

والمسيرة الطويلة حافلة بالقصص الإنسانية المثيرة، التي تشبه الأساطير، وتبرز فيها معاني التضحية والإيثار والشجاعة، فهذا ضابط دفع حياته وهو يحاول أن يوفر الطعام لجنوده، وآخر فقد حياته وهو يتقدم الجنود ليستكشف الطريق، وهذا جندي يحمل رفيقه المصاب لمسافات طويلة، وهذا يؤثر زملاءه بما يحمله من زاد قليل ، وهذا وهذا وذاك، حكايات ترتقى ذرى إنسانية سامقة لتشكل بحد ذاتها ملاحم باهرة.

وأخيراً اكتملت المسيرة الطويلة بعد أن قطع جنود الجيش الأحمر آلاف الأميال، وبعد أن فقد الآلاف منهم أرواحهم، وانضم من تبقى من هؤلاء البواسل، الذين ربما لم يزد عددهم على خمسة عشر ألف جندي إلى قائدهم ماوتسي دونغ، ذلك الرجل الذي حفر اسمه في تاريخ بلاده بل والتاريخ النضالي للعالم، رجل لم يكن يملك حينذاك إلا نفسه العامرة بحب بلاده، وقلبه الممتليء ثقة بالنصر..

اكتملت المسيرة الطويلة، لتدشن عهداً جديداً، وتمهد الطريق فيما بعد إلى النصر، فبعد وتحرير كامل الصين من طغيان حكومة الكومينتانغ.

ولكن ماذا يمكن أن يستفيده المرء في حياته المعاصرة من هذه الملحمة الخالدة والمعجزة البشرية، التي وصفها الرئيس الصيني شي جين بينغ، بأنها لحظة عظيمة في تاريخ الأمة الصينية، ورحلة طويلة للبحث عن المثل والإيمان واختبار الحقيقة وطرق أرض جديدة ؟

هل نستلهم منها قيماً سامية مثل الصبر على المكاره والتضحية والإيمان بالوطن، أم نتعلم منها الثقة في النصر مهما تكن الظروف المحيطة بنا قاسية وغير مواتية؟

هل نتعلم منها الثبات على المبدأ والمثابرة والتمسك بالحق حتى النهاية ؟

ربما يكون هذا هو بعض ما يمكن أن نستخلصه من المسيرة الطويلة، ولكل إنسان أن يقرأ الأحداث بطريقته، ويراها من الزاوية التي يحب، ويستخلص منها ما يشاء من دروس .

وأنا على المستوى الشخصي هزتني من الأعماق تلك الأنشودات الجميلات التي كان يشدو بها الفنانون فوق خشبة مسرح المركز القومي للفنون، خلال العرض الفني البديع " المسيرة الطويلة، والتي ربما لا أذكر بالضبط كلماتها، ولكن معانيها المفعمة بالأمل والعزيمة والتفاؤل لا تزال تتردد في نفسي :

ربما لم يكن الأمس جميلا ً ..

ولكن الغد سيكون جميلاً

..........

الفشل ليس مهماً .. ليس نهاية العالم

ما دمنا نؤمن بالنصر.

أخبار متعلقة
تعليقات
تعلم اللغة الصينية
حول القسم العربي