د. لويس حبيقة :
يمر الاقتصاد الدولي في مراحل جديدة مهمة ستغير معالمه لعقود طويلة قادمة؛ حيث يشهد العالم اليوم تغيرات في الاتجاهات التالية: صعود الصين كقوة اقتصادية دولية، سقوط الدولار كاحتياطي نقدي عالمي، وصعود أوروبا والهند كقوتين اقتصاديتين دوليتين. أما دور المنطقة العربية ومستقبلها فيرتبطان بعوامل الانفتاح الاقتصادي والأمن والنفط. هنالك مؤشرات ايجابية، ليس فقط في دول الخليج العربي وانما في المجموعة العربية ككل، على رغبة واضحة في التعاون والتنسيق الاقتصاديين لهدف توسيع الأسواق الداخلية أمام المستثمرين. مازال العالم العربي متأخرا في معظم الركائز الأساسية لأية مجموعة اقتصادية مشتركة ناجحة، وهي أوضاع المصارف والتأمين والاتصالات والنقل والمعلومات والجمارك وغيرها. العالم العربي متأخر في تطوير قوانينه ومؤسساته، ولا يمكن بناء وحدة اقتصادية دون تحديث الركائز. أما الأمن فيرتبط تحقيقه بما يحصل في العراق وفلسطين وهما موضوعان في غاية التعقيد والتقلب. يبقى موضوع النفط ذو السعر المتأرجح الذي يتفق الجميع على دوره الكبير في تسيير عملية النمو الاقتصادي الدولي، هنالك اتفاق ضمني على تحقيق الشروط الثلاثة التالية فيما يخص النفط وهي: أولا، يحتاج العالم الى النفط لتأمين عمل الدورة الاقتصادية استثماريا واستهلاكيا اذ لا يمكن العيش حاليا بدونه، لذا يجب الاستمرار في انتاج ما يطلب. ثانيا، يجب التنبه الى البيئة بحيث لا يسيء الانتاج والاستهلاك النفطي الى الطبيعة، لذا يجب تطبيق كل المعايير البيئية الحديثة. ثالثا، لا يمكن معالجة المواضيع الدولية البيئية بما فيها السخونة الأرضية الا عبر تعاون المنتجين والمستهلكين لمصلحة الجميع عبر اتفاقية "كيوتو" وبعدها. يتحدد السعر الأفضل لبرميل النفط وكذلك كمية الانتاج المناسب، ضمن أوبيك وخارجها، عبر السوق تأمينا للمصالح المذكورة.
أولا: ركائز التفوق الصيني في النمو والصادرات حيث أصبح مقلقا للجميع بما فيه أمريكا واليابان. يتحقق النمو الصيني الاستثنائي مع أجور ثابتة، وهذه تجربة جديدة لم يشهدها العالم من قبل، يذكرنا هذا الواقع بالنزاع السابق الحاد بين الولايات المتحدة واليابان وخشية أمريكا منها كمنافس اقتصادي دولي. "التحدي أو الخطر الياباني" كان يشغل بال الأمريكيين دولة وأعمالا وأفرادا وجامعات بحيث تركزت الجهود على منافسته الى أن تعثرت المسيرة اليابانية لأسباب مالية ومصرفية داخلية. الفارق بين الوضعين الياباني والصيني هو أن مصدر النهوض الياباني كان في معظمه داخليا ومرتكزا على التكنولوجيا الوطنية المتطورة. أما النهوض الصيني فيعتمد الى حد بعيد على الاستثمارات اليابانية والأمريكية والأوروبية مستفيدة من اليد العاملة وسعر الصرف والبنية التحتية الجيدة والأسواق الداخلية الواسعة والانفتاح الاقتصادي المتزايد والمناخ السياسي والاجتماعي المناسب. تتوجه الصناعة الدولية أكثر فأكثر الى شرق أسيا خاصة الصين مما يشير الى حدوث سوء توازن اقتصادي عالمي في المستقبل القريب.
زادت الصادرات الصينية من ملياري دولار في سنة 1970 الى 438 مليار دولار في سنة 2003. فبينما كانت تشكل الصادرات الصينية 4.65% من قيمة الصادرات الأمريكية في سنة 1970، أصبحت تشكل 60.5% منها في سنة 2003. أما نسبة الصــــــــادرات الصينية من اليابانية، فزادت من 10,52% في سنة 1970 الى 92.8% في سنة 2003 أي تقريبا نفس القيمة. أما نسبة الصادرات الصينية من المجموع العالمي، فتطورت مــــــن 0.8% في سنة 1970 الى 5.9% في سنة 2003 مقارنة بـ6.3% لليابان و 9.7% للولايات المتحدة. المهم ايضا هو أن هيكلية الصادرات الصينية تتغير من السلع الزراعية والحرفية البدائية الى ذات التكنولوجيا المرتفعة مما يؤشر الى تفوق الصين قريبا في قيمة الصادرات على أمريكا. تدل الاحصائيات المتوافرة لسنة 2002 على أن العملة الصينية هي أدنى من قيمتها الحقيقية بنسبة 83% مما يفسر جزئيا النجاح التصديري. الا أن الصين تستفيد كما ذكرنا من عوامل أخرى مهمة تجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي بلغت قيمتها الصافية 49 مليار دولار في سنة 2002 حتى لو ارتفع اليوان، لن تتأثر الصادرات الصينية كثيرا لأهمية العوامل الايجابية الأخرى. كما أن الصناعة الصينية أصبحت مميزة دوليا بنوعيتها وتصاميمها وتتغير هيكليتها أكثر فأكثر نحو السلع المتطورة. ما تخسره الصين من صادرات، اذا حصل، يمكن أن تعوضه في أسواقها الداخلية الشاسعة التي تتطور وتتسع وتزدهر مع الوقت.
ثانيا: سقوط الدولار في الأسواق النقدية وتدني جاذبيته كاحتياطي نقدي. أمريكا، بسبب عجزي الموازنة وميزان الحساب الجاري تقترض لتمويل استهلاكها. في سنة 2003 اقترضت أمريكا 531 مليار دولار من آسيا (309 مليار دولار) والدول الغربية (أي أوروبا وكندا 96 مليار) والدول المصدرة للنفط (71 مليار) وغيرها (55 مليار). يبلغ عجز الميزان التجاري مع الصين وحدها مائة مليار دولار ولا يمكنها انتاج السلع المستوردة (ألعاب، قطع سيارات، حواسب وغيرها) بنفس التكلفة والجودة حتى لو ارتفع سعر صرف اليوان. ليس في مصلحة أمريكا انتاج ما تستورده من الصين، بل عليها التركيز على انتاج السلع ذات التكنولوجيا العالية جدا أو المتفوقة. هنا تكمن الأفضلية المقارنة الواضحة للأمريكيين. تطور الاحتياطي النقدي الدولي من 1781 مليار دولار في سنة 1999 الى 3014 مليار دولار في سنة 2003، انخفضت حصة الدول الصناعية منها من 43.3% في سنة 1999 الى 39,6% في سنة 2003. بينما كانت حصة آسيا ضمن مجموعة الدول النامية والناشئة تشكل حوالي 62% في سنة 1999، أصبحت تشكل حوالي 64.8% في سنة 2003 مما يدل مجددا على التغير الحاصل في الجغرافيا الاقتصادية الدولية لصالح آسيا. سقوط الدولار يدفع الدول الآسيوية الى تبديل أصولها من دولار الى يورو وغيرها من العملات الدولية حفاظا على القيمة.
ثالثا: صعود المجموعات الأخرى وفي مقدمتها أوروبا والهند التي بفضل تنوعها الديموغرافي تشكل مجموعة حضارية بحد ذاتها. يرتكز الاقتصاد الأوروبي على اتفاقية ماستريخت المحددة لهوامش السياسات المالية، لكنها غير مطبقة بسبب مخالفة الكبار لها. من المتوقع أن تعدل خلال هذه السنة بحيث يصبح تطبيقها محتملا أكثر. بأهمية المواضيع المالية، لا بد من التنويه بالتفوق الأوروبي في ميادين أخرى صناعية وانشائية التي تشكل مصدر حيوية أساسي لمستقبل أوروبا. من هذه الانجازات ما حققته شركة ايرباس الحديثة نسبيا التي تنافس بنجاح شركة بوينغ وتفوز عليها أحيانا. من هذه الانجازات أيضا القطارات السريعة التي تربط الداخل الأوروبي بعضه ببعض كما تربط فرنسا ببريطانيا. لابد من ذكر الجسر المدهش المنشأ حديثا في جنوب فرنسا الذي يسهل الانتقال الى الشاطئ الجنوبي. ادخال دول جديدة الى أوروبا سيغنيها أكثر فأكثر مع الوقت وسيسمح لها بتجديد نفسها دون أن تترك المبادئ الانسانية الأساسية التي بنيت عليها. أما الهند، فيرتكز نموها على الانتاج التكنولوجي الذي تفوقت به بفضل جامعاتها وعمالتها. التحدي الأكبر الذي تواجهه الهند هو مقدرتها على المحافظة على نموها الحالي المقدر بـ8.3% سنويا. تعتمد قوة الاقتصاد الهندي على مجموعة عوامل أهمها نسبة الأراضي القابلة للزراعة التي تصل الى 54% من المجموع مقارنة بـ13% فقط للصين. 34% من الهنود هم دون الـ15 سنة مما يوفر يد عاملة كثيرة ونشطة تتمتع بالانضباط وتعمل بصمت. عدد سكان الهند يفوق المليار نسمة مع نمو قوي يبلغ 1.5% مقارنة بـ0.73% للصين. ستضطر الهند الى تصدير عمالة أكثر اذا لم تحسن استيعابها في الاقتصاد الوطني. أخيرا، ان الاصلاحات الاقتصادية المطبقة بدءاً من عام 1991 بالاضافة الى الاستثمارات الغربية الكبيرة الموظفة ستجعلان من الهند قوة اقتصادية كبرى في حوالي عقد من الزمن.
الشرق-قطر
7-1-2005