رسالة باكستان: محمـود مــراد
تدرك باكستان جيدا انها في بحر بلا قرار وسط محيط واسع زاخر بالأخطار والمهددات وقد صاحبها هذا الاحساس منذ اللحظة الأولي لولادتها قبل57 عاما مما جعلها دائما في حالة استفزاز واستنفار تخشي ان استكانت وتقوقعت ان تفقد حياتها, لذلك كان لابد ان تكون ليس فقط قوية وانما أيضا ان تكون' شيئا ما' يحقق لها' مكانة'.. في المكان! والذي يدرس الحالة الباكستانية يجد انها دائما تبحث عن' القوة', فقد بدأ النزاع يهدد بنسف قيامها منذ اللحظة الأولي فتصادقت مع بريطانيا.ثم شاركت في حلف بغداد.. وتقاربت مع الصين وصنعت قنبلتها النووية والآن ومنذ تولي الرئيس برويز مشرف فإنه بالاستراتيجية السياسية التي اتبعها وطد علاقات بلاده مع الدول العربية والاسلامية..
واستثمر الأحداث الأفغانية لتطبيع وتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.. وحاول ـ ولا يزال ـ احتواء أزمة كشمير مع الهند وفي الوقت الذي أخذ فيه يعالج الأوضاع الداخلية للقضاء علي التطرف فانه دعم موقع بلاده في منظمة الدول الاسلامية. لكن السؤال الذي يشغله ودائرة صنع القرار من حوله هو: أين هي مكانة باكستان هل تنبع من انها صديقة للصين لكن الصين لها أصدقاء وربما أقرب! فهل لأنها صديقة للولايات المتحدة خاصة فيما يسمي حرب' الارهاب' لكن هذه الصداقة لن تستمر بعدما هدأت الأوضاع في أفغانستان الي حد كبير! فهل لأنها دولة إسلامية في آسيا التي تعتنق شعوبها أديانا وعقائد متعددة سماوية وغير سماوية ولكن ماليزيا أيضا مسلمة وكذلك اندونيسيا وتعداد شعب كل منها أكبر وقوته الاقتصادية أضخم.. إذن.. كيف تتحقق' المكانة' ومن أين تجئ
ان الاجابة تعود الي ما سبق ان قاله لي الرئيس برويز مشرف بنفسه من انه يريد لباكستان ان تكون بلدا قويا تتحقق لشعبه التنمية باستثمار كل موارده وامكاناته ويمارس حياته بديمقراطية سليمة متمتعا بعلاقات سلام جيدة مع جيرانه ومع جميع الدول.. ومن هذا المنطلق نفذ مشرف سياسته.. والي الآن. وأحسب من خلال متابعتي للشأن الباكستاني والزيارة الأخيرة التي قام بها مشرف الي أوروبا والأمريكتين في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي, ومن خلال حواراتي ومناقشاتي خلال زيارتي لباكستان في نفس الشهر ان مشرف يريد أن تلعب بلاده دورا يتجاوز حدود موقعها الجغرافي في جنوب شرق آسيا ويمتد بفاعلية الي الدائرة الاسلامية الأوسع التي تنتظم فيها أربع وخمسون دولة.. وهذا يحقق لها المكانة المنشودة.
والدليل علي ذلك وأوضح مؤشراته تكرار مشرف أثناء مقابلاته مع قادة الدول وتصريحاته للصحفيين' ان الارهاب سيستمر مادامت المشـكلات الساخنة بقيت في المنطقة وأبرزها' فلسطين' و' العراق' و' كشمير'.. ونلاحظ هنا انه ذكر هذه المشاكل بهذا الترتيب مع ان' كشمير' هي قضية بلاده الأولي!
ولم يكن هذا غائبا عن دوائر التفكير في' إسلام أباد'..وهو ما ذكره لي السفير المتقاعد' أغا شاهي' الذي تجاوز السبعين من عمره وعمل سفيرا لبلاده في دول عديدة ويعد الآن خبيرا استراتيجيا له رأيه.. إذ قال لي ان تركيز مشرف علي فلسطين ـ قبل كشمير ـ وعلي العراق يعني انه لم يذهب حاملا فقط مشكلات بلاده وانما أيضا ـ بل وقبل هذا ـ راح مهموما بأمته الاسلامية فانه يعتبر العرب ـ قلب هذه الأمة ـ ولا تنس انه لايزال محافظا علي الموقف الباكستاني وهو عدم الاعتراف باسرائيل أو.. اقامة أية علاقات معها قبل استرداد كل الحقوق العربية المشروعة واقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس.
واذا حاولنا رصد الواقع السياسي في باكستان.. فاننا يمكن ان نعدد ثلاثة تيارات رئيسية فيه هي:
* تيار الجماعات الدينية... وهو تيار عريض تضرب جذوره منذ تأسيس الدولة وانخرط في أحزاب سياسية منذ الستينيات... وقد شكل في الفترة الأخيرة تحالفا تحت قيادة واحدة...
* تيار يمثله حزب الرابطة ـ جناح قائد أعظم... الموالي للرئيس برويز مشرف... وهو تيار عريض يمثل' الوسطية' في الاسلام' وهذا الفكر طرحه الرئيس مشرف في دراسة قدمها لمنظمة المؤتمر الاسلامي وقد سبق ان حدثني عن هذا الفكر الذي يستهدف البعد بالاسلام عن' التحريف' و' الأفكار المتطرفة' واستخدام العنف' غاية ووسيلة' مما جعل البعض ـ في الخارج ـ يربط بين الارهاب والدين الحنيف.. وفي سبيل ذلك يري مشرف ضرورة تطوير التعليم ومواجهة مدارس الجماعات الدينية التي كان عددها قد وصل الي نحو سبعة آلاف مدرسة تفتح ابوابها للتلاميذ لتعليمهم بالمجان وصرف وجبة غداء لهم ثم الحاق الخريجين ـ أو معظمهم ـ بمهن مختلفة.. وبالتالي يستمر ولاؤهم للجماعات فتحركهم وتقودهم الي حيث تشاء.. وضد من تشاء! وقد تم ضم عدد كبير من هذه المدارس الي وزارة التعليم وتحت اشرافها.
* تيار حزب الشعب الذي تقوده' بي نظير بوتو' ابنة الرئيس الراحل ذو الفقار بوتو... وهي تعيش خارج البلاد تتنقل بين' دبي' و' لندن' و' واشنطن'.. محكوما عليها بالسجن غيابيا لمدة عشر سنوات بتهمة الفساد والرشوة.. ولقد كان زوجها' آصف زرداري' سجينا بنفس التهمة منذ خمس سنوات ثم تقرر الافراج عنه ليخرج ويمارس السياسة والحزبية رغم انه من قبل كان مشغولا فقط بالصفقات التجارية فهو اصلا من بلدة' زردار' باقليم السند وتبعد عن مدينة كراتشي ـ عاصمة الاقليم ـ بنحو150 كيلومترا.. وقد نشأ في أسرة ثرية تمتلك الأراضي واستمر هكذا بعد ان تزوج' بي نظير' فاتسع المجال الاقتصادي والتجاري أمامه تاركا السياسة للزوجة التي تتحلي بثلاثية: الشهرة والثراء والجمال!
واذا كانت الزوجة لا تزال في الخارج فان آصف زرداري المفرج عنه منذ أسابيع لم يجد المجال متاحا أمامه في' البيزنيس' فانخرط في السياسة تحت راية حزب الشعب ومارس نشاطه في مدينة' كراتشي' ـ الميناء والعاصمة التجارية والاقتصادية ـ ثم انتقل الي' لاهور' ـ مليون نسمة ـ وهي عاصمة اقليم البنجاب وتعد بتراثها العاصمة الثقافية لباكستان.. ويقول المحللون ان الافراج عن' آصف' مقصود به استمالة حزب' الشعب' للوقوف مع الحكومة ضد التيار الديني والمعارضة.. هذا.. خاصة ان حزب' الرابطة' الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق' نواز شريف' صار منهكا بعد الحكم علي رئيسه ثم الافراج عنه منذ أربع سنوات علي ان يقيم في' السعودية' دون مباشرة نشاط سياسي.. لمدة عشر سنوات.. فصار الحزب منهكا ومضروبا.. ولا يبقي سوي حزب' الشعب' الذي يجد مساحة للحركة وان كانت رئيسته غائبة! فهل يمكن ان تعود!
ان مشاهد حسين وزير الاعلام السابق في حكومة' نواز شريف' ـ التي خلعها مشرف في أكتوبر1999 ـ والذي انضم الي حزب الرابطة ـ جناح قائد أعظم وصار سكرتيرا عاما له.. يقول في حوار جري بمكتبه بمجلس الشيوخ وهو عضو فيه ـ ان بي نظير بوتو يمكن ان تعود في أي لحظة الي البلاد.. لكن عليها ان تقف أمام القضاء لتحديد موقفها من الاتهامات الموجهة اليها.
وبالفعل فان موقف بوتو في يد القضاء.. لكني اكاد أشعر انه اذا عادت وحتي اذا حكم عليها القضاء بحكم ما.. فان رئيس الدولة سيستخدم سلطاته ويصدر قرارا بالافراج عنها.. ومع ان كثيرين يتفقون في هذا الرأي.. الا ان' بوتو' حذرة وربما أكثر من اللازم وتمارس حياتها بحساب شديد وما أظن انها ستعود الا بتأكيدات رسمية وضمانات كافية. وهذا ما تدور حوله اتصالات سرية الآن! وحسب ما قيل لي من أقرب مساعديها فانها ستختبر قوتها وحزبها خلال شهر يناير الحالي اذ قررت ان تقيم احتفالات ضخمة في ذكري ميلاد والدها ذو الفقار علي بوتو وذلك في اسلام اباد ـ كراتشي ـ لاهور.. وتجري اتصالاتها وتأمل ان تنجح في اقامة احتفال كبير آخر بمدينة' دبي' بدولة الامارات العربية.
وسوف تكون الاحتفالات هذه المرة مختلفة عما سبق. فهي قد تعودت في ذكري الميلاد ـ4 يناير1926 ـ ان تقيم بواسطة مساعديها احتفالا في اسلام اباد وآخر في كراتشي.. يتضمن كلمات عن الزعيم الراحل تعدد مناقبه وتترحم عليه.. لكنها هذه المرة تنوي ان تكون الاحتفالات تظاهرات سياسية كبيرة.. وان توجه لكل احتفال داخل باكستان رسالة بالصوت والصورة.. وان ـ وهذا هو الجديد ـ تنظم ندوة دولية في' دبي' تدعو اليها شخصيات من دول متعددة.. وسوف تكون هذه الندوة في اليوم الحادي عشر من يناير بأحد الفنادق الكبري.. بعد انتهاء موسم الأعياد واحتفالات رأس السنة وزحامها!
ولكن يبقي السؤال: هل سيتحالف حزب الشعب ـ ولو بدرجة ما- مع حزب الرابطة ـ جناح قائد أعظم في مواجهة المعارضة التي ضمت الجماعات الدينية وحزب الرابطة ـ نواز شريف وعناصر أخري ان الاجابة لا يمكن الجزم بها..
أعود فاقول ان هدف باكستان هو ان تحقق لها في العام الجديد2005' مكانة' وليس فقط مكانا.. والطريق الي هذا شاق يمر بعثرات ومنحنيات' ترتيب البيت من الداخل' ولهذا ستشهد البلاد مزيدا من الانفراج الديمقراطي.. و تسوية مشكلة كشمير الأمر الذي يقتضي تحركا لتفعيل مبادرة مشرف للحوار بلا شروط مع الهند.. وابراز' دور' باكستان في' منظمة الدول الاسلامية'.
واكثر من هذا مد الجسور مع مناطق جديدة ومنها أمريكا اللاتينية التي زارها مشرف وهي أول زيارة لرئيس باكستاني الي هذه الدول.
ولعلي أضيف ان عام2005 ـ سيشهد علي نفس الطريق وليس بعيدا عن الهدف ـ تحديث الدولة وانفتاح المجتمع الباكستاني..
واخيرا.. فان في برنامج الرئيس الباكستاني لتعزيز مكانة بلاده عدة زيارات سيقوم بها خلال العام الجديد بينها زيارة لعدد من العواصم العربية
الاهرام-مصر
10-1-2005