بقلم : مـحــمــــد بــاشـــــــا
في التاسع من يناير الحالي2005, وقعت الحكومة السودانية, والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب, اتفاق سلام تاريخيا في العاصمة الكينية نيروبي, وينهي بذلك أطول حرب أهلية في تاريخ القارة السمراء استمرت21 عاما وراح ضحيتها نحو مليوني مواطن وتشريد نحو أربعة ملايين آخرين من أبناء السودان الشقيق, الذي يودع بهذا الاتفاق الحرب والدمار من أجل السلام والاستقرار, وعلي حد وصف الرئيس عمر البشير إنه عقد جديد لجميع السودانيين واعلان تقديره في رسالة بعث بها الي الرئيس مبارك للدور المصري في اتمامه, وطلب استمراره لانهاء المشكلات المتبقية سواء من خلال منبر التفاوض في القاهرة أو جولة المفاوضات في ابوجا لحل النزاع في دارفور, كما أكد جون قرنق رئيس الحركة أن الاتفاق سيغيرالسودان إلي الآبد.
.. ولأننا نتفق مع المحللين والخبراء الذين يرون في هذا الاتفاق نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ السودان, ونموذجا مضيئا لتسوية الخلافات والتعايش السلمي بين جميع دول القارة, فإننا سوف نرصد أهم ملامحه, ونجيب عن سؤال مهم حول ماهية ضمانات صمود هذا الاتفاق التي نأمل أن تحول بينه وبين مصير اتفاقين سابقين في تاريخ السودان الأول اتفاق اديس أبابا عام1972 في عهد حكومة الرئيس الاسبق جعفر نميري, واتفاقية الخرطوم للسلام التي وقعتها حكومة الرئيس البشير التي صمدت حتي عام1983, وانهارت بعدها...!
.. ونبدأ الآن في رصد أهم ملامح هذا الاتفاق الذي يقع في300 صفحة باللغتين العربية والانجليزية, واستغرقت المفاوضات عليه30 شهرا ويضم ثمانية بروتوكولات اتفق عليها الجانبان في31 ديسمبر الماضي, والتي توجت بالاتفاق النهائي الذي وقعه عن الحكومة النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه وزعيم الحركة جون قرنق, وممثلو12 دولة ومنظمة كشهود من بين نحو25 رئيس دولة وحكومة وممثلي منظمات اقليمية ودولية حضروا الاحتفال التاريخي.
وتتمثل الجوانب الموضوعية في الاتفاق في تقسيم السلطة والثروة بين الشمال والجنوب الذي أصبح له حق المشاركة في الحكم في اطار ديموقراطي يضمن للجميع حقوقا متساوية تحترم فيه كرامة الانسان والمبادئ الدستورية وحرية الاعتقاد والسعي إلي البناء والتعمير, وتتمثل في التالي:
* أولا: مرحلة انتقالية ودستور وطني: يحدد الاتفاق مرحلة انتقالية مدتها ست سنوات, تطبق خلالها الشريعة الإسلامية في الشمال ولا تطبق في الجنوب, كما يجري التفاوض لاعداد دستور وطني انتقالي في غضون ستة أسابيع من توقيع الاتفاق, ويؤدي اليمين كنائب أول للرئيس السوداني جون قرنق, وتشكل حكومة وطنية تحكم البلاد خلال هذه المرحلة الانتقالية, والتي يحق بعدها لسكان الجنوب تقرير المصير, بالتصويت إما بالبقاء في النظام الذي يتم اقراره خلال هذه المرحلة أو الانفصال عنها.
***
* ثانيا: تقسيم السلطة التنفيذية والتشريعية: بمقتضي هذا الاتفاق تنشأ علاقة جديدة بين الشمال والجنوب, عن طريق توزيع المناصب العليا للسلطة في سابقة غير مسبوقة, وإنشاء مؤسسات وهياكل جديدة لتيسير العلاقة بينهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية, بحيث يحصل حزب المؤتمر الوطني الحاكم علي52% من المقاعد والحركة علي28% وأحزاب شمال السودان الأخري علي14% وبقية الأحزاب علي6%.
كما يقضي الاتفاق بتقسيم المقاعد في الادارة الاقليمية علي أساس70% لحزب المؤتمر و10% للحركة وبقية الاحزاب السياسية في الجنوب علي20%, كما تحصل الحركة علي70% من المقاعد الحكومية والتشريعية في حكومة الجنوب, والقوي الجنوبية الأخري وحزب المؤتمر علي15% لكل منها, كما تقسم السلطتان في الولايتين علي أساس55% لحزب المؤتمر والحركة45%, ويكون الحكم في الولايتين دوريا بحيث يتولي كل جانب منصب المحافظ لنصف الفترة السابقة علي اجراء الانتخابات, وتعيين برلمان من غرفتين لمدة ثلاث سنوات الأولي من450 عضوا والثانية مجلس للولايات من50 عضوا وذلك قبل الانتخابات المحلية والبرلمانية في العام الرابع من الفترة الانتقالية.
***
* ثالثا: تقسيم الثروة: تقسم صافي عائدات النفط خلال الفترة الانتقالية علي أساس حصول الحكومة الوطنية علي50% وحكومة الجنوب علي42% بينما يحصل كل من منطقة بحر الغزال في الجنوب وغرب كردفان وسكان نجوك دينكا والمسيرية علي2% والمعروف أن انتاج الجنوب من النفط يصل حاليا إلي350 الف برميل يوميا تصدر عبر بورسودان, كما يقدر احتياطي السودان بنحو ملياري برميل.
* رابعا: وقف اطلاق النار والغاء الطوارئ: يتضمن الاتفاق وقفا دائما لاطلاق النار, وانشاء وحدات مسلحة مشتركة قوامها نحو40 الف جندي تنتشر في أنحاء الجنوب والمناطق الثلاث التي كانت متنازعا عليها وهي ايبي وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان, فضلا عن وحدة واحدة في العاصمة, وخلال فترة انتقالية مدتها ستة أشهر تقدم الادارة في الجنوب التمويل الرئيسي لوحدات الحركة, بينما تمول حكومة الخرطوم الجيش الشمالي والوحدات المشتركة وفي المدي الطويل يترك تمويل القوات الجنوبية بما يقرره المجلس الوطني خلال الفترة الانتقالية. كما يقضي الاتفاق بالغاء حالة الطوارئ المعلنة في السودان منذ1999 في جميع المناطق الخاضعة لاتفاق وقف اطلاق النار باستثناء المناطق التي لا تسمح أوضاعها بذلك, كما يطلق سراح أسري الحرب في غضون30 يوما من التوقيع.
***
نصل الآن إلي رصد مجموعة الضمانات التي نراها تحافظ علي هذا الاتفاق والالتزام بتنفيذ كل بنوده وهي:
اعتراف السودانيين حكومة ومعارضة بأنه لا سبيل أمامهم لحل النزاع وانهاء حالة الحرب إلا بالجلوس علي مائدة المفاوضات المسبوقة بحسن نيات الطرفين, من أجل أن يسود السلام والاستقرار والانطلاق إلي البناء والتعمير, في اطار الدستور المؤقت والبرلمان ومجلس الولايات, إضافة إلي المحكمة الدستورية باعتبارها حارسا وصمام أمان لهذا الاتفاق, الذي يكتسب ضمانة أخري بالغة الأهمية برضاء الشعب السوداني عن ذلك, وشعوره بالأمان والاستقرار وحل مشكلاته الحياتية والذي ظهرمن خلال مظاهرات التأييد للاتفاق.
نص الاتفاق علي بروتوكول لآليات التنفيذ وفق جداول زمنية وتحديد الأدوار والمسئوليات في تنفيذ البروتوكولات الثمانية وهو ما يمثل ضمانة ثانية.
يمثل حضور25 دولة التوقيع وشهادة ممثلي12 دولة ومنظمة, ضمانة دولية, ومن بينها الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والجامعة العربية واللجنة الفرعية في الايجاد المعنية بملف السلام السوداني, والاتحاد الأوروبي, ووزيرا خارجيتي أمريكا باول ومصر ابو الغيط وغيرهما.
تولي قوة المراقبين التابعة للأمم المتحدة مراقبة عملية السلام والتحقق من الالتزام به بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة, ضمانة رابعة.
يعد هذا الاتفاق نموذجا بارزا علي أهمية دور المنظمات الاقليمية في حل النزاعات, حيث برز دور الاتحاد الافريقي في رعاية المفاوضات حتي التوصل إليه, وهو ما يعد ضمانة خامسة.
***
ويبقي أن نأمل في نجاح السودان بهذا الاتفاق غير المسبوق بأن تكون وحدته قوة جذب بين شماله وجنوبه بالتعمير والبناء والأمن والاستقرار بدلا من الحرب والدمار في إطار تقبل المساواة مع الآخر في الحقوق والواجبات وأن الدين لله والوطن للجميع للانطلاق إلي حل أزمة دارفور.
وأحسب أن ما أعلنه الاتحاد الأوروبي عن استعداده لتقديم400 مليون يورو من المساعدات التي حجبت منذ عام1990, وما أعلنه وزير الخارجية أحمد ابو الغيط أن مصر بدأت اجراءات تنفيذ مجموعة من المشروعات الصغيرة لاعمار الجنوب, تمثل جميعها وغيرها بداية صحيحة تفتح الباب أمام تعاون دولي وعربي يسهم في عملية الاعمار والبناء التي تمثل احدي ضمانات ترسيخ الاتفاق.
الاهرام-مصر
17-1-2005