تيار أمريكي يطالب ببرمجة الانسحاب في موعد أقصاه 2006 وتقليص دور السفارة الأمريكية في بغداد
باريس: عبدالكريم أبوالنصر
تتحدث التقارير الدبلوماسية الواردة من واشنطن إلى عدد من عواصم الدول الأوروبية البارزة، وللمرة الأولى بوضوح، عن وجود حالة من "التذمر والتململ" داخل إدارة الرئيس بوش تجاه الخطط والسياسات الأمريكية في العراق إذ برز تيار قوي داخل الإدارة الأمريكية يدعو إلى سحب كل القوات الأمريكية من العراق خلال الأشهر المقبلة وإلى تغيير أسلوب التعاطي مع المقاومة المسلحة والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد والامتناع عن إقامة قواعد عسكرية أمريكية فيه، ويعترف هذا التيار بأن أغلبية من العراقيين "معادون" للولايات المتحدة بسبب سوء التصرف والأخطاء التي ارتكبها المسؤولون الأمريكيون منذ سقوط نظام صدام حسين.
وكشفت مصادر دبلوماسية أوروبية وثيقة الاطلاع لـ"الوطن" أن هناك صراعا جدياً داخل إدارة بوش حول مستقبل الوجود العسكري والسياسي الأمريكي في العراق وأن هناك تيارين بارزين حاليا داخل هذه الإدارة لكل منهما مواقف مختلفة عن الآخر بشأن مستقبل الدور الأمريكي في الساحة العراقية.
التيار الأول: يضم عدداً من المسؤولين والدبلوماسيين في وزارة الخارجية ومسؤولين عسكريين في وزارة الدفاع وقد رفع أخيراً توصيات واقتراحات سرية إلى الرئيس بوش تدعو إلى بدء إعداد الخطط لسحب كل القوات الأمريكية تدريجياً من العراق في موعد أقصاه مطلع 2006 وتقليص دور ومهمة السفارة الأمريكية في بغداد وخفض عدد العاملين فيها بنسبة كبيرة بحيث تتوقف هذه السفارة عن توجيه شؤون العراق ومسار الأوضاع فيه في الخفاء وتتحول إلى بعثة دبلوماسية عادية تساعد الحكومة العراقية الشرعية المنتخبة على معالجة وتسوية المشكلات المتعددة التي ستواجهها في الداخل والخارج. وأكدت المصادر المطلعة أن أنصار هذا التيار الأول المدعومين أيضاً من مسؤولين وخبراء في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. أي) يقترحون إنهاء هذا التورط العسكري والسياسي الأمريكي الكبير في العراق خلال مستقبل قريب وذلك للأسباب الأساسية الآتية:
أولاً: لم يعد ممكنا في تقدير هؤلاء، وخلافا لخطط المحافظين الجدد، إقامة عراق جديد علماني ديمقراطي موال فعلا لأمريكا وغير معاد لإسرائيل ومستعد لاستضافة عدد كبير من القواعد العسكرية الأمريكية لفترة زمنية طويلة ويكون مثالا نموذجيا يحتذى به في العالم العربي. ويجب أن تعترف الإدارة الأمريكية بهذا الواقع وتتخلى عن خططها السابقة وتساعد بدلا من ذلك على إقامة نظام عراقي شرعي جديد يتمتع بالمصداقية وتقبله الأغلبية الكبيرة من العراقيين ويحرص بوضوح على المصالح الوطنية العليا للعراقيين ويؤمن لهم حاجاتهم ومطالبهم الأساسية ويقيم علاقات حسن جوار وتعاون مع مختلف الدول المجاورة له.
ثانياً: يجب أن تعترف الإدارة الأمريكية بأن المقاومين المسلحين للوجود الأمريكي في العراق ليسوا مجموعة صغيرة محدودة العدد من الإرهابيين والمقاتلين العرب والمتعصبين المعارضين للديمقراطية والرافضين إقامة دولة ذات سلطة مركزية قوية، بل إن ما يحرك المقاومة المسلحة وغير المسلحة مشاعر وطنية قوية راسخة في نفوس الكثير من العراقيين المعادين للاحتلال الأجنبي والرافضين خطط الهيمنة الأمريكية على هذا البلد والغاضبين من عدم وجود حكومة وطنية عراقية تمثل مختلف الطوائف والأطراف وتعمل في الدرجة الأولى على تحقيق أهداف العراقيين وأمانيهم.
ثالثاً: التقارير الدبلوماسية والاستخباراتية الواردة من بغداد إلى واشنطن تؤكد أن العراقيين بأغلبيتهم الكبيرة لديهم مشاعر معادية لأمريكا ليس بسبب إسقاط نظام صدام حسين بل بسبب سوء تصرف المسؤولين الأمريكيين والأخطاء الكبيرة التي ارتكبوها في هذا البلد ولأن الأمريكيين اختاروا فرض سلطتهم على العراقيين بدلا من العمل على كسب تأييدهم وتعاطفهم. وضمن هذا الإطار كشف استطلاع للرأي العام العراقي أجراه أخيراً "المعهد الجمهوري الدولي" ولم تنشر نتائجه، كشف هذا الاستطلاع أن أكثر من 66% من العراقيين يتهمون أمريكا بالعمل على تفجير حرب أهلية في العراق وأن عداء العراقيين لأمريكا أكبر من عدائهم لدول أخرى متهمة بالتدخل في شؤونهم كسوريا وإيران وغيرها.
رابعا: لن تستطيع أمريكا أن تكسب احترام العراقيين مجدداً وتأييدهم لإقامة علاقات وثيقة معها في المستقبل ما لم تقدم على ثلاث خطوات كبيرة وأساسية هي: أولاً: إصدار بيان رسمي يتلوه الرئيس بوش ويعلن فيه قرار الإدارة الأمريكية سحب كل قواتها تدريجيا من العراق في موعد أقصاه مطلع 2006. ثانيا: يجب أن تتعهد إدارة بوش علنا بأنها لن تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية أمريكية في العراق بعد سحب مقراتها منه. ثالثاً: يجب أن تقبل إدارة بوش أن تتخذ الحكومة الشرعية العراقية المقبلة قرارات وإجراءات غير متطابقة تماما مع ما تريده واشنطن، كما أن من مصلحة أمريكا أن يكون النظام العراقي الشرعي الجديد "معارضا" لبعض جوانب السياسة الأمريكية لأن ذلك يكسبه شعبية ومصداقية.
خامساً: في انتظار سحب القوات الأمريكية من العراق يجب تغيير استراتيجية التعاطي الأمريكي مع المقاومة العراقية المسلحة بحيث يجري المسؤولون الأمريكيون في هذا البلد مفاوضات مع المقاومة لإظهار "حسن النية" تجاهها ومعرفة ما إذا كان ممكنا التوصل إلى صيغ حلول للمشاكل العالقة، ومهاجمة المقاومين فقط في حال فشلت هذه المفاوضات.
لكن في مقابل هذا التيار "المتمرد" على السياسة الأمريكية المتبعة في العراق، فهناك تيار ثان داخل إدارة بوش يضم خصوصا المحافظين الجدد المتشددين في هذه الإدارة وكذلك ديك تشيني نائب الرئيس ومعظم المسؤولين في البيت الأبيض، وهذا التيار يتمسك بضرورة بقاء القوات الأمريكية سنوات أخرى في العراق وبمواصلة لعب دور مباشر ومؤثر على مسار الأوضاع في هذا البلد من أجل منع قيام نظام عراقي ديني متشدد أو علماني - وطني معاد للولايات المتحدة أو غير منسجم مع توجهاتها ومخططاتها. واعترفت المصادر المطلعة بأن البيت الأبيض يرسل تعليمات يومية إلى السفارة الأمريكية في بغداد وإلى المسؤولين الأمريكيين العاملين في هذا البلد تتضمن اقتراحات وتوجيهات بشأن كيفية التعامل مع الأحداث والتطورات في الساحة العراقية. وقد وضع هذا التيار الثاني خططا لإقامة أكثر من عشر قواعد عسكرية أمريكية كبيرة في العراق لاستخدامها خلال السنوات المقبلة.
وأكدت المصادر الأوروبية المطلعة لـ"الوطن" أن الرئيس بوش ونائبه تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد ووزيرة الخارجية الجديدة كوندوليسا رايس يدعمون التيار الثاني ويرفضون حتى الآن أية اقتراحات لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق خلال الأشهر المقبلة أو لتغيير طبيعة المهمة الأمريكية في هذا البلد، على أساس أن ذلك سيشكل انتصاراً للمقاومة ولإرهابيي القاعدة وسيمنع قيام نظام مستقر في العراق مما يهدد المصالح الحيوية الاستراتيجية الأمريكية والأمن والاستقرار في المنطقة. لكن المصادر ذاتها شددت على أنه يجب عدم التقليل من أهمية "الموجة الداخلية المعارضة" للسياسات الأمريكية الحالية في العراق إذ إن هذه الموجة يمكن أن تكبر ويتسع مداها في الفترة المقبلة خصوصا إذا ما فشل النظام العراقي الجديد المنبثق عن الانتخابات في تحقيق استقرار نسبي بالتعاون مع الأمريكيين وإذا ما ازدادت الأوضاع الأمنية والسياسة تدهوراً في هذا البلد.
الوطن-السعودية
17-1-2005