م: صالح عقالا ?
تقاس مكانة الدول في هذا العصر بقوتها الاقتصادية أولا وليس قوتها العسكرية أو حجم مساحتها وعدد سكانها... فهناك دول ذات اقتصاد مزدهر لا تمتلك قوة عسكرية كبيرة مثل سويسرا وهولندا والسويد والدانمارك وماليزيا، بل ان هناك دول وامارات صغيرة لا تمتلك حتى الثروة البشرية ولكنها تتمتع بقوة اقتصادية عالية مثل هونج كونج وسنغافورة ودبي.
وبالنظر الى المميزات الاقتصادية التي تمتلكها المملكة العربية السعودية، فهي مؤهلة لأن تكون مركزا اقتصاديا عالميا لما لها من مكانة دولية نتيجة وجود الحرمين الشريفين قبلة أكثر من مليار مسلم موزعين في جميع أنحاء العالم، بالإضافة الى موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وامتلاكها لأكثر من ربع احتياطي العالم من الثروة البترولية المتوقع استمرارها كمصدر رئيسي للطاقة لأكثر من ثمانين عاما مقبلة حسب التصريحات الأخيرة، كما أنّ ايرادات ميزانيتها تعتبر الأعلى في منطقة الشرق الأوسط بما فيها تركيا والسادسة في آسيا والثالثة والعشرون دولياً، وكذلك وجود سيولة مالية هائلة داخليا وخارجيا، فقد أوضح أحد رجال الأعمال البارزين في جريدة الوطن بتاريخ 26 رمضان 1425هـ بأنّ فائض الاكتتاب في إحدى الشركات العاملة في المملكة قد بلغ أكثر من 50 مليار ريال، بينما يقدر حجم رؤوس الأموال المستثمرة في الخارج ما بين 3 تريليون ريال و 3,75 تريليون ريال تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية منها على 2,6 تريليون ريال، كما بينت بعض التقارير بأنّ حجم الأموال المهاجرة سنوياً من المملكة يبلغ 68 مليار ريال تشتمل على 50 مليار ريال تحويلات العاملين الأجانب في المملكة و18 مليار ريال للاستثمار في الخارج.
وبمراجعة الأفكار المطروحة في ندوة «الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي حتى عام 1440هـ (2020م)» التي نظمتها وزارة التخطيط في الفترة من 13 إلى 18 شعبان 1423هـ بمدينة الرياض، لم تشر أوراق العمل الموجودة على موقع الوزارة الى اية رؤية مستقبلية (vision) وإنما تحليلات وتوقعات للمستقبل.
بينما المؤمل أن يكون لدى المملكة رؤية اقتصادية مستقبلية شاملة في جميع المجالات: الصناعية والتجارية والمالية والتعليمية والصحية وغيرها، ذات أبعاد إسترتيجية لما نريد أن نكون عليه مستقبلاً ومرتبطة بجدول زمني لتحقيقها على المدى القصير (1-5 سنوات) والمتوسط (5-10 سنوات) والطويل (10-20 سنة)، يتم تحديدها بمشاركة الجميع من الجهات الحكومية والقطاع الخاص بجميع فئاته والأكاديميين في التخصصات المختلفة وأصحاب الفكر في حوار مرتكز على أسس علمية منهجية، بهدف تنويع مصادر الدخل بدلا من الاعتماد الكبير على النفط، وتفعيل دور القطاع الخاص في نمو وازدهار الاقتصاد، والاعتماد على الثروة البشرية الوطنية، وكذلك رفع مستوى ودخل المواطن مع التركيز على زيادة نسبة شريحة المواطنين متوسطي الدخل. هذه الرؤية يجب أن تكون على مستوى الوطن أولا، وعلى مستوى كل منطقة من مناطق المملكة ثانيا، وعلى مستوى كل وزارة ثالثا.
فعلى المستوى الوطني يمكن تحديد الرؤية الاقتصادية الشاملة بالاقتباس من تجارب الدول الأخرى والإضافة اليها، فالمملكة لديها القدرة على أن تكون مركزا لصناعة تكنولوجيا المعلومات والمناطق الحرة والتجارة وإعادة التصدير والصناعة خاصة المعتمدة على نقل التكنولوجيا والبتروكيماويات وتجميع السيارات والإلكترونيات والمؤسسات المالية ومركزاً للتعليم العالي والسياحة وغيرها... أما بالنسبة للمناطق، فينبغي تحديد رؤية افتصادية لكل منطقة، فإحداها تكون مركزا للتجارة وثانية للصناعة وثالثة لتكنولوجيا المعلومات والالكترونيات ورابعة للزراعة وأخرى للسياحة وغير ذلك... وبنفس الطريقة يحدد لكل وزارة رؤية مستقبلية خاصة بها تتماشى مع الرؤية الاقتصادية الشاملة.. فعلى سبيل المثال- يمكن تحديد الرؤية المستقبلية لوزارة التعليم العالي بأن تكون المملكة مركزا للجامعات والتدريب والتأهيل العالي الذي يعمل على جذب الطلاب والباحثين من مختلف دول العالم للقدوم الى المملكة والالتحاق بمؤسساتها العلمية مقابل تكلفة مناسبة.
أما في الجانب الزمني، يجب التركيز في المدى القصيرعلى إزالة العوائق الحالية التي تحد من تطور القطاع الخاص الداعم الرئيسي لنمو الاقتصاد وإيجاد بيئة استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال، وحل الإشكال المزمن بين الجهات الحكومية التي تشير دائما الى انجازاتها الكبيرة لتحقيق النمو الاقتصادي بينما يرى القطاع الخاص بأن البيئة الاستثمارية في المملكة تواجه الكثير من الصعوبات نتيجة للبيروقراطية المتأصلة في الجهات الحكومية.
وفي المدى المتوسط يتعين الوصول الى تأسيس قاعدة اقتصادية شاملة فهي مدة ليست بالقصيرة في حساب الشعوب كما حصل في امارة دبي وكذلك دولة ماليزيا التي استطاعت أن تتحول من دولة فقيرة تعتمد على زراعة وتصدير المطاط الى دولة صناعية تحتل المرتبة السابعة عشرة بين اقتصاديات العالم، أما العشر سنوات اللاحقة فتكرس لدعم الاقتصاد وتطويره والإضافة إليه من أجل استمراره ونموه.
إنّ تحديد الرؤية المستقبلية للاقتصاد سيكون له مردود إيجابي على مستوى وزارات وادارات الدولة وامارات المناطق ورجل الأعمال والمستثمر والمواطن، فكل وزاره أو إدارة حكومية ستتمكن من تحديد رسالتها (mission) وخططها الإستراتيجية مع توجيه مواردها المالية والبشرية لتحقيق الرؤية الاقتصادية الخاصة بها حسب الجدول الزمني المحدد، وكذلك امارات المناطق فستسعى كل واحدة منها الى تركيز جهودها لتحقيق الأهداف المرجوة لمنطقتها مما يساهم في عدم انتقال المواطنين باتجاه المدن الكبرى، وسيصبح في مقدور رجل الأعمال والمستثمر معرفة الفرص الاستثمارية المستقبلية، وسيتمكن المواطن - نتيجة وضوح الرؤية لديه- من تحديد المجالات التي ستحقق طموحاته العلمية والمالية المستقبلية.
ومن أجل تنفيذ هذه الرؤية الاقتصادية الشاملة على مختلف المستويات، فالأمر يتطلب انشاء هيئة اشرافية مستقلة يمكن تسميتها «الهيئة العليا للاقتصاد» ترجع في أعمالها للمجلس الاقتصادي الأعلى، ويكون هدفها العمل على تحديد هذه الرؤية المستقبلية والإشراف على تحقيقها بالتنسيق مع جميع الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمتابعة المستمرة لجميع الشؤون المتعلقة بالاقتصاد، وتفعيل قرارات المجلس الأعلى للاقتصاد، ويتم اختيار رئيس لها ذي خبرة علمية وعملية في القطاع الخاص وليس الحكومي أو الأكاديمي، وتتكون إداراتها مبدئيا من الإدارة الاقتصادية وتضم الأقسام المتعلقة باقتصاد الوطن والمناطق والوزارات، إدارة التخصيص، ادارة سوق المال، ادارة الغرف التجارية، ادارة الاستثمار، ادارة الاتفاقيات الاقتصادية والاتصال الدولي ، ادارة هيكلة الإدارات والأنظمة الحكومية المتعلقة بالاقتصاد، ادارة الحكومة الإلكترونية، ادارة العلاقات العامة والإعلام، بالإضافة لإدارة الشؤون الإدارية والمالية...
كل ما سبق يحتاج الى الدعم الحكومي المستمر وفتح المجال أمام القطاع الخاص والمستثمرين بشكل كبير للعمل على انجاز هذه الرؤية، وإشراك جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وكذلك المنتديات والاجتماعات المختلفة لتلعب دورا فعالا في توسيع مدارك المجتمع بجميع فئاته وإيضاح دور كل فرد وهيئة ومؤسسة حكومية أو خاصة لتحقيق هذه الرؤية المستقبلية، مع التأكيد على الاستمرار والالتزام بتطبيقها مهما تغير الأفراد أو واجهنا من صعوبات.
? ماجستير ادارة مشاريع
الرياض-السعودية
17-2-2005