لعل من أهم المسؤوليات المناطة بالبنك الدولي للتنمية والاعمار هي تشجيع انسياب الاستثمارات الأجنبية الى الدول النامية للمساهمة في تنميتها الاقتصادية وتزويدها بالخبرات الفنية اللازمة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف فقد سعى البنك الى انشاء وسيلة دولية تختص بالفصل في المنازعات بين المستثمر الأجنبي والدولة التي يزاول النشاط فيها. وقد تمخض هذا السعي عن اعداد اتفاقية دولية متعددة الأطراف في 18 مارس/آذار ،1965 والتي دخلت حيز التنفيذ ابتداء من 14 اكتوبر/تشرين الأول 1966. وتنشئ هذه الاتفاقية مركزاً دولياً لتسوية منازعات الاستثمار بطريق التوفيق أو التحكيم. أما على الصعيد العربي حسب دراسة الدكتور دريد السامرائي فقد أبرمت الدول العربية الأعضاء في مجلس الوحدة الاقتصادية العربية بتاريخ 10 يونيو/حزيران 1974. (اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة للاستثمارات العربية ومواطني الدول العربية الأخرى). وقد نتج عن هذه الاتفاقية انشاء مجلس عربي لتسوية المنازعات الاستثمارية. ويهدف المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار عموماً الى تقديم تسهيلات التوفيق والتحكيم في المنازعات الاستثمارية التي قد تثور بين الدول المتعاقدة والمستثمرين من مواطني الدول المتعاقدة الأخرى. ذلك أن ايجاد وسيلة محايدة لتسوية تلك المنازعات من شأنه دعم الثقة المتبادلة بين أطراف الاستثمار. كما يساعد في الوقت ذاته على زيادة تدفق رأس المال الدولي على الدول التي ترغب في اجتذابه. وتراعي الاتفاقية في سبيل تحقيق هذا الهدف اجراء الموازنة الدقيقة بين مصالح الدول المستقطبة للاستثمار والمصالح المشروعة للمستثمرين. حيث تعبر الاتفاقية في أحكامها القانونية المختلفة عن محاولة التوفيق بين مصلحتين: حاجة المستثمر الأجنبي للضمان وحاجة الدول النامية الى رأس المال الأجنبي.
موافقة أطراف النزاع على تسويته بطريق التحكيم يعد تنازلا عن الوسائل الأخرى
يختص المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية عموماً بنظر المنازعات القانونية التي تنشأ مباشرة عن الاستثمار بين دولة متعاقدة ومستثمر يحمل جنسية دولة متعاقدة أخرى. ويترتب على ذلك استبعاد المنازعات ذات الطبيعة السياسية من نطاق اختصاص المركز. اذ ينبغي لانعقاد اختصاصه أن يكون النزاع قانونياً وذا صلة واضحة ومباشرة بالاستثمار. بيد أن الاتفاقية لم تحدد ماهية عمليات الاستثمار التي تختص بالمنازعات الناشئة عنها. ولهذا يذهب جانب من الفقه الى التوسع في تفسير تلك العمليات وتوسيع اختصاص المركز ليشمل كافة المنازعات التي تدخل في نطاق عقد الاستثمار وما يرتبط به من عمليات مكملة أو لازمة لتنفيذه. والمثل على ذلك النظر في المنازعات المترتبة على تنفيذ عقود الاستيراد والتصدير والقروض والضمانات وعقود المقاولات وعقود نقل التكنولوجيا. ولا ينعقد الاختصاص للمركز بنظر المنازعات الاستثمارية بمجرد نشوئها، بل ينبغي لذلك أن يوافق طرفا المنازعة صراحة على احالتها الى المركز. ولابد من التنويه هنا الى أن تصديق الدولة على اتفاقية انشاء المركز لا يعد قبولاً منها لاختصاصه ولا يلقي على عاتقها التزاماً بتقديم أي نزاع استثماري اليه سواء في الحاضر أو في المستقبل. فاختصاص المركز من حيث الأصل اختصاص اختياري يتوقف على رغبة الطرفين في اللجوء اليه. ويتم التعبير عن هذه الموافقة كتابة. وفيما عدا ذلك لم تحدد الاتفاقية أي شكل خاص لتلك الموافقة. فقد ينص عقد الاستثمار المبرم بين الدولة والمستثمر على احالة ما قد ينشأ عنه من منازعات في المستقبل على المركز. وقد تتضمن الاتفاقية الدولية الخاصة بتشجيع وحماية الاستثمار الأجنبي موافقة الدولة على اللجوء الى المركز لتسوية المنازعات التي يمكن أن تثور بينها وبين رعايا الطرف الآخر في الاتفاقية. وقد يقرر قانون الاستثمار في الدولة موافقتها على اختصاص المركز بنظر المنازعات، متى وافق المستثمر على ذلك كتابة. كما هو الحال مثلاً في قانون الاستثمار المصري النافذ( رقم (8) لسنة 1997 الذي ينص على أنه يجوز الاتفاق بين الأطراف المعنية على تسوية هذه المنازعات في اطار اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول وبين رعايا الدول الأخرى التي انضمت اليها جمهورية مصر العربية بالقانون رقم (90) لسنة 1971. ويكرس قانون الاستثمار اليمني رقم (22) لسنة 1991 هذا الاتجاه صراحة. فبمقتضى المادة (70) منه (يجوز تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ هذا القانون والتي تنشأ بين الحكومة والمشروع وذلك عن طريق التحكيم بأي من الأساليب التالية وفقاً لاختيار المستثمر أو المشروع الاتفاقية الدولية لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة ومواطني الدول الأخرى. أما قانون تشجيع الاستثمار في الأردن رقم (16) لسنة 1995 فانه يقضي بما يأتي: اذا لم تتم تسوية النزاع من خلال الوسائل الودية خلال مدة لا تزيد على ستة أشهر فلأي من الطرفين اللجوء الى القضاء أو احالة النزاع على المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار لتسوية النزاع بالتوفيق أو بالتحكيم وفق اتفاق تسوية نزاعات الاستثمار بين الدول ومواطني دول أخرى الموقعة من المملكة. ويلاحظ هذا الاتجاه أيضاً في قانون تشجيع الاستثمار لسنة 1999 في السودان الذي ينص على أن (تسري أحكام اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى لسنة ،1965 وأي اتفاقية أخرى يكون السودان طرفاً فيها، وذلك على أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة عن أي من تلك الاتفاقيات.
وأياً كان الأمر فان موافقة أطراف النزاع على تسويته بطريق التحكيم لدى المركز يعد تنازلاً منهم عن أية وسيلة أخرى لتسوية النزاع. ومع ذلك فانه يجوز للدولة أن تتطلب استنفاد طرق التقاضي الداخلية كشرط لازم للجوء الى المركز. ولعل أهم ما تقرره الاتفاقية في مجال ضمان المستثمر الأجنبي هو تخويله الحق، بصفته الشخصية، في اقامة دعواه ضد الدولة أمام المركز. ومن ثم فانه لا يكون بحاجة لأن تتبنى دولة جنسيته مطالبته الدولية أمام المركز.
*اجراءات اقامة الدعوى
تبدأ اجراءات اقامة الدعوى بتقديم طلب من قبل الطرف الراغب في تسوية النزاع سواء أكان المستثمر أم الدولة، الى السكرتير العام للمركز. ويجب أن يتضمن هذا الطلب معلومات كاملة عن موضوع النزاع وأطرافه وموافقتهم على اللجوء الى التوفيق أو التحكيم طبقاً للقواعد التي تقررها الاتفاقية. ويقوم السكرتير بتسجيل الطلب بعد التحقق من دخول النزاع في اختصاص المركز. كما يقوم كذلك بتبليغ الأطراف بهذا الاجراء. وتتشكل لجنة التوفيق أو هيئة التحكيم عموماً من عدد فردي من الأعضاء يتم تعيينهم باتفاق الأطراف. فان لم يتفقوا على ذلك فانه يصار الى تشكيلها من ثلاثة أعضاء يختار كل طرف واحداً منهم بينما يتم تعيين العضو الثالث، الذي تنعقد له رئاسة الجلسة، باتفاق الأطراف. فان لم تشكل اللجنة أو الهيئة خلال تسعين يوماً من ارسال السكرتير العام الاعلان بتسجيل الطلب الى الأطراف، فانه ينبغي على رئيس المجلس الاداري بناء على طلب أحد الأطراف أن يقوم بتعيين الأعضاء الذين لم يتم تعيينهم.
*اجراءات التوفيق
يتسم التوفيق باعتباره وسيلة ودية لتسوية المنازعات، بأنه يقوم في الواقع على مجرد تقديم توصيات لأطراف النزاع بغية الوصول الى اتفاق بينهم. ولهذا فانه يختلف عن وسائل التسوية القضائية التي تنتهي عادة باصدار قرار يتضمن قواعد محددة وملزمة للأطراف. واتساقاً مع هذه المبادئ تقوم لجنة التوفيق بالعمل على تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة والسعي الى بلوغ اتفاق بينهم يتضمن قواعد مقبولة من الطرفين. كما أن لها أن تصدر، في أية مرحلة من مراحل النزاع توصيات تتضمن قواعد للتسوية. ويتمتع أطراف النزاع عموماً بحرية واسعة في الدفاع عن حقوقهم أمام اللجنة بكل الوسائل القانونية المتاحة. فاذا ما توصلت اللجنة الى عقد اتفاق بين الأطراف أو أخفقت في تحقيق هذه النتيجة فانها تقوم بوضع تقرير توضح فيه موضوع النزاع وما أفضت اليه جهودها من نتائج.
*اجراءات التحكيم
تطبق هيئة التحكيم عند النظر في النزاع المعروض عليها القواعد الاجرائية التي تتضمنها الاتفاقية فضلاً عن قواعد التحكيم التي يقررها المجلس الاداري للمركز. أما من الناحية الموضوعية فانه ينبغي على هيئة التحكيم أن تطبق القواعد القانونية التي يتفق عليها الأطراف. فان لم يتفقا على قواعد معينة فانه يصار الى تطبيق القانون الوطني للدولة المستقطبة للاستثمار التي تكون طرفاً في النزاع، اضافة الى قواعد القانون الدولي القابلة للتطبيق. بيد اننا نحبذ أن تضطلع هيئة التحكيم بتطبيق أحكام القانون الوطني للدولة عند عدم وجود اتفاق بين الأطراف على تطبيق قواعد قانونية أخرى. ذلك أن الأصل أن يسري هذا القانون على النزاع المعروض على الهيئة الاّ اذا وجد اتفاق على خلاف ذلك. وحيث أنه لا وجود لمثل هذا الاتفاق فلا يكون هناك مناص من تطبيق القانون الوطني للدولة. وتصدر الهيئة قرارها بأغلبية الآراء خلال تسعين يوماً من انتهاء الاجراءات، وللعضو الذي يكون له رأي مخالف أن يرفق رأيه بالحكم. ويكون قرار التحكيم ملزماً لأطرافه استناداً الى أحكام المادة (1/53) من الاتفاقية.
تقدير دور المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار
تتسم المنازعات الاستثمارية بطبيعتها الخاصة الناجمة عن اختلاف المركز القانوني لأطرافها، فأحدهما دولة ذات سيادة بينما الآخر هو في الغالب شخص من أشخاص القانون الخاص. عليه فانه يلزم لنجاح أية هيئة دولية تضطلع بمهمة تسوية مثل هذه المنازعات، حسب تقديرنا، أن تعمل قدر المستطاع على التوفيق بين المصالح المشروعة للمستثمر وحاجته للضمان وبين سيادة الدولة المستقطبة للاستثمار وحاجتها الى رأس المال الأجنبي. وتسير اتفاقية انشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، حسب ما نرى، على هذا الاتجاه. حيث تمت صياغة الالتزامات القانونية التي تقررها في شكل جعل للاختيار نصيباً وافراً مع المحافظة في الوقت ذاته على الحماية المطلوبة للاستثمارات الأجنبية. اذ تستطيع أية دولة أن تصبح طرفاً في الاتفاقية، من دون أن تلتزم بتقديم أي نزاع استثماري الى المركز. بيد أنها اذا ما وافقت على اللجوء الى المركز فانها تلتزم بقرارات التحكيم الصادرة عنه. والواقع من الأمر أن المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار يعد حالياً من أفضل الوسائل المتاحة لتسوية المنازعات الاستثمارية. لذلك فقد لجأت كثير من الدول المستقطبة للاستثمار الى تقرير اختصاص المركز بنظر تلك المنازعات سواء في قوانينها الوطنية أو في عقود الاستثمار التي تبرمها مع المستثمرين الأجانب. وتكرس بعض الدول المصدرة لرأس المال هذا الاتجاه أيضاً في الاتفاقيات الثنائية التي تعقدها لتشجيع وحماية الاستثمارات الأجنبية.
*المجلس العربي لتسوية منازعات الاستثمار
يعد المجلس العربي لتسوية منازعات الاستثمار في الواقع هيئة اقليمية تمخضت عن اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار، المبرمة في اطار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية. ويضطلع هذا المجلس عموماً بتسوية منازعات الاستثمار التي قد تنشب بين دولة متعاقدة ومستثمر يحمل جنسية دولة متعاقدة أخرى، وذلك عن طريق التوفيق أو التحكيم. ويهدف انشاؤه في الواقع الى محاولة خلق مناخ ملائم للاستثمار في الدول العربية بشكل يسهم في تشجيع استثمار رأس المال العربي في هذه الدول. ويلاحظ أن الأحكام القانونية التي تقررها اتفاقية انشاء المجلس تماثل في مضمونها وفحواها تلك الأحكام التي تنص عليها اتفاقية انشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التي سبق بحثها.
*اختصاص المجلس
تتطلب الاتفاقية لاختصاص المجلس بنظر النزاع أن يكون ذلك النزاع قانونياً وناشئاً مباشرة عن استثمار. ولهذا فانه لا يختص بنظر المنازعات ذات الطبيعة السياسية. كما أنه يلزم أن تكون هناك رابطة مباشرة بين النزاع واستثمار معين. كأن يتعلق النزاع مثلاً بوجود حق أو التزام أو بتحديد مداه أو الآثار المترتبة عليه ويجب أن يلاحظ بهذا الصدد أن ولاية المجلس بنظر النزاع انما هي ولاية اختيارية قوامها رضاء الطرفين المتنازعين باللجوء اليه. ومن ثم فانه لا يكفي تصديق الدولة على الاتفاقية لالزامها بتسوية منازعاتها الاستثمارية من خلال المجلس، وانما يتعين بالاضافة الى ذلك موافقة الدولة والمستثمر على تسوية النزاع من خلال المجلس. هذا ولم تشترط الاتفاقية في هذه الموافقة شكلاً معيناً سوى الكتابة، ويشترط لاختصاص المجلس أخيراً أن يكون أحد أطراف النزاع دولة عربية متعاقدة وأن يكون الطرف الآخر مواطن دولة عربية متعاقدة أخرى. ويستوي بعد ذلك أن يكون شخصاً طبيعياً أو معنوياً. يتضح من ذلك اذاً أن اختصاص المجلس العربي يماثل الى حد كبير اختصاص المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار. بيد أنه يختلف عنه في كونه مجلساً اقليمياً اذ يقتصر نطاقه على الدول العربية الأعضاء في مجلس الوحدة الاقتصادية العربية.
*اجراءات التوفيق
توجب الاتفاقية على الأطراف المتنازعة ابتداءً اللجوء الى طريق التوفيق، فان تعذر تسوية النزاع من خلاله فانه يصار الى التحكيم. ويعد هذا الاتجاه أمراً ضرورياً من الناحية القانونية. اذ يمكن عن طريق الوسائل الودية، تسوية جميع الاشكاليات القانونية التي قد تثور بين المستثمر والدولة المستقطبة للاستثمار. عليه فان هذا الاتجاه يفضل، بحسب تصورنا، على ما تقرره اتفاقية البنك الدولي التي تجيز لأي من الطرفين المتنازعين اللجوء الى أسلوب التوفيق أو التحكيم. فمن المحبذ الزام الطرفين باعتماد طريقة التوفيق أولاً لحل المنازعات القائمة بينهما، فان تعذر ذلك فان بامكانهما اللجوء الى وسائل التسوية القضائية.
ولما كان التوفيق وسيلة رضائية لتسوية المنازعات الاستثمارية فانه لا يفضي في الواقع الى اصدار قرار محدد وملزم للأطراف، وانما يقتصر على مجرد تقديم توصيات لأطراف النزاع بغية الوصول الى اتفاق بينهم.
*التحكيم التجاري
قد يحجم المستثمر الأجنبي بصفة عامة عن استثمار أمواله في دولة يعلم أن اللجوء الى قضائها الوطني هو الوسيلة الوحيدة لاقتضاء حقوقه في حالة النزاع. وعلة ذلك تكمن عموماً في عدم معرفة المستثمر المذكور بمعطيات المثول أمام هذا القضاء كما أنه يجهل الاجراءات الواجبة الاتباع أمامه في الغالب. وقد يعوق تلك الاجراءات مبدأ حصانة الدولة أمام المحاكم الداخلية، الذي يحول دون هذه الأجهزة القضائية الداخلية والتعرض لتصرفات الدولة. فضلاً عن ذلك فان اناطة الاختصاص بالقضاء الوطني في الدولة للفصل في المنازعات بينها وبين المستثمر، انما يجعل من تلك الدولة خصماً وحكماً في آن واحد. وبما أن المستثمر لا يستطيع اللجوء بصفته الشخصية وبشكل مباشر الى محاكم القضاء الدولي، فقد اتجه الفقه وقواعد السلوك الدولي الى اعتماد نظام "التحكيم التجاري" بوصفه نظاماً قانونياً بديلاً لتسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر الأجنبي. ويحظى نظام التحكيم عموماً بثقة المستثمر وتأييده عموماً وذلك، لمرونة اجراءاته واختصار وقته وتكاليفه. هذا بالاضافة الى ما يخوله لأطراف النزاع من حرية كافية في اختيار قضاتهم الذين يتوخون فيهم الثقة والخبرة والمعرفة اللازمة بموضوع النزاع. كما أن لهم حرية تحديد الاجراءات الواجبة الاتباع أمام هيئة التحكيم. اضافة الى كل ما تقدم فان التحكيم يمنح الأطراف حرية اختيار القانون الذي يحكم النزاع. واذا كان الأصل هو أن ينعقد للقضاء الوطني في الدولة الاختصاص بحسم المنازعات الاستثمارية، بيد أن الدول المختلفة تدرك مع ذلك أهمية وجود نظام قانوني لتسوية المنازعات يحظى بقبول المستثمر الأجنبي ويبعث الاطمئنان لديه بشأن ما يمكن أن ينشب بينه وبين الدولة من منازعات. فوجود مثل هذا النظام "التحكيم" من شأنه أن يسهم في تدفق الاستثمارات الأجنبية الى الدولة والتوسع في حجم المبادلات التجارية معها. ولهذا فانها قد تقرر في قوانينها الداخلية جواز احالة المنازعات الاستثمارية على التحكيم. ومن تلك القوانين مثلاً قانون الاستثمار المصري الذي يجيز الاتفاق على تسوية منازعات الاستثمار بطريق التحكيم. أما قانون الاستثمار اليمني رقم (22) لسنة 1991 فانه يجعل من التحكيم النظام القانوني الواجب الاتباع لتسوية المنازعات الاستثمارية. اذ ينص على أنه (دون اخلال بالحق في الالتجاء الى القضاء اليمني يجوز تسوية منازعات الاستثمار المتعلقة بتنفيذ أحكام هذا القانون والتي تنشأ بين الحكومة والمشروع وذلك عن طريق التحكيم بأي من الأساليب التالية وفقاً لاختيار المستثمر أو المشروع:
الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية.
الاتفاقية الدولية لفض منازعات الاستثمار بين الدولة ومواطني الدول الأخرى. أي اتفاقية دولية أو ثنائية تكون الدولة طرفاً فيها. وأياً كان الأمر فان التحكيم يعد في الواقع وسيلة قانونية لفض المنازعات الاستثمارية شاع النص على استعمالها في قوانين وعقود الاستثمار وفي الاتفاقيات الدولية الخاصة بتشجيع وحماية الاستثمارات الأجنبية. وتصادف هذه الوسيلة بصفة عامة قبولاً واسعاً لدى الأطراف المتعاقدة باعتبارها تقوم على الاتفاق الاختياري فيما بينها. فضلاً عن أن التحكيم يعد من أقدم الوسائل لتسوية المنازعات سواء في القانون الوطني أو في القانون الدولي. ولقد ازداد اللجوء اليه مع توسع وزيادة معدلات التجارة الدولية. فعقدت الاتفاقيات الثنائية والجماعية لتنظيم اجراءاته وأحكامه وآثاره. كما أنشئت مراكز التحكيم في مختلف دول العالم. هذا ويعرف التحكيم بصفة عامة من الناحية القانونية بأنه نظام لتسوية المنازعات عن طريق أفراد عاديين يختارهم الخصوم إما مباشرة أو عن طريق وسيلة أخرى يرتضونها. أو هو بعبارة أخرى مكنة أطراف النزاع باقصاء منازعاتهم عن الخضوع لقضاء المحاكم المخول لها طبقاً للقانون كيما تحل عن طريق أشخاص يختارونهم. وتوجب دراسة التحكيم أن نتناول بالبحث والتحليل اتفاق التحكيم، واجراءاته والقرار الذي يصدر عنه وذلك في مباحث ثلاثة.
* اتفاق التحكيم
يقوم نظام التحكيم عموماً على مبدأ الرضائية. اذ يتعين لامكان اللجوء اليه اتفاق الطرفين المتنازعين على ذلك. فان تخلفت تلك الموافقة تعذر عرض النزاع على التحكيم. وتؤكد محكمة العدل الدولية هذا الاتجاه حيث تقرر بأن: مبدأ عدم امكان الزام الدولة باحالة منازعاتها على التحكيم دون رضاها هو أحد المبادئ المستقرة تماماً في القانون الدولي. بيد أن هذا الاتفاق قد يتخذ أشكالاً متعددة. فقد يكون على هيئة شرط Une clause وارد ضمن بنود العقد، وقد يكون في صيغة اتفاق Une convention مستقل يبرمه الطرفان المتنازعان. لذا فان دراسة اتفاق التحكيم توجب بادئ ذي بدء البحث في صيغه
المختلفة ثم دراسة القانون الذي يحكم هذا الاتفاق.
*صور الاتفاق على التحكيم
يمكن أن يكون الاتفاق على اللجوء الى التحكيم بمقتضى شرط يرد في العقد، ويطلق على هذا الشرط عموماً اصطلاح (شرط التحكيم) وبموجبه يتفق أطراف العلاقة القانونية، قبل نشوب النزاع، على حسم ما قد يثور بينهم من منازعات بواسطة التحكيم. والأصل أن يكون هذا الشرط عاماً بحيث يؤدي الى احالة جميع المنازعات المتعلقة بتفسير العقد أو تنفيذه الى التحكيم. بيد أنه قد يكون شرطاً خاصاً متى اتفق الأطراف على قصر الاحالة للتحكيم على بعض المسائل دون البعض الآخر. وقد يتفق الأطراف على اللجوء الى التحكيم بمناسبة نزاع معين قائم بينهم بالفعل، ويسمى في هذه الحالة (اتفاق التحكيم أو عقد التحكيم أو مشارطة التحكيم). وهو تصرف قانوني مستقل، يتخذ شكل اتفاق مكتوب، ويحدد فيه الطرفان موضوع النزاع وأسماء المحكمين ومكان واجراءات التحكيم. وعادة ما يكون هذا الاتفاق لاحقاً على نشوب النزاع. وتأسيساً على ذلك يذهب جانب من الفقه الى التمييز بين نوعين من التحكيم: تحكيم اختياري وهو الاتفاق على التحكيم اللاحق على نشوب النزاع والذي يتخذ صورة "عقد تحكيم". وتحكيم اجباري وهو اتفاق سابق على نشوب الخلاف والذي يتخذ صورة شرط التحكيم. بيد أن مثل هذا التصور لا يستقيم في الواقع قانوناً. ذلك أن التحكيم يخضع لارادة الأطراف ويتأسس على مبدأ الرضائية. فكل تحكيم هو اذاً اختياري طالما أنه يستمد مصدره من رضاء الأطراف، سواء كان سابقاً على نشوب النزاع أو لاحقاً له، وسواء اتخذ صورة شرط تحكيم أو اتفاق تحكيم. فالتحكيم يظل اذاً اجراءً اختيارياً وان تعددت صيغه، حيث يخضع لاتفاق الطرفين في انشائه وتنظيمه مستجيباً في ذلك لمبدأ الرضائية.
*تشكيل هيئة التحكيم
يتأسس نظام التحكيم على مبدأ الرضائية الذي يخول أطراف النزاع المساهمة الايجابية في تشكيل هيئة التحكيم. ومع ذلك فان بعضاً من عقود الاستثمار والقوانين المقارنة تحيل في كيفية تشكيل هيئة التحكيم وتنظيمها الى القواعد الاجرائية الخاصة ببعض محاكم التحكيم. كالاحالة مثلاً الى قواعد اجراءات محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية، أو الى الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية لعام 1980. وفي هذه الحالة تخضع محكمة التحكيم في تشكيلها وتنظيمها للقواعد القانونية التي تمت الاحالة اليها. بيد أن كثيراً من قوانين الاستثمار المقارنة والاتفاقيات الدولية تأخذ بصيغة شائعة مقتضاها أن يجري تشكيل هيئة التحكيم من محكمين اثنين يقوم كل من طرفي النزاع باختيار أحدهما، ويقوم هذان المحكمان بالاتفاق على تعيين حكم ثالث لهما. وتبدأ المدة التي ينبغي تعيين المحكم خلالها من تاريخ الاخطار الكتابي الذي يوجهه أحد الطرفين الى الطرف الآخر، متضمناً موضوع النزاع ودعوة هذا الطرف الأخير الى عرضه على التحكيم وتعيين محكمة. وتحدد الاتفاقيات الدولية وعقود الاستثمار عموماً حداً أقصى لتلك المدة بحيث يترتب على انقضائها من دون قيام أحد الطرفين بتعيين محكمه اناطة الاختصاص بتعيينه الى جهة قضائية أخرى. وقد تكون تلك الجهة محكمة وطنية أو أجنبية، كما قد تكون هيئة قضائية دولية.
أما الحكم الثالث فإنه يحتل مكانة مهمة في هيئة التحكيم. ويرجع سبب ذلك عموماً الى الدور الرئيسي والفعال الذي يضطلع به في حسم النزاع. اذ إنه في حالة اختلاف وجهات النظر بين المحكمين المعينين من قبل الأطراف (وهما يختلفان في الغالب لاختلاف المصالح التي يمثلانها) فإن الرأي الذي يؤيده المحكم الثالث يرجحه لا محالة، ومن ثم فإنه ينبغي أن تتوافر لدى هذا المحكم من ضمانات الحيدة والعدالة ورجحان الفكر ما يدعم الشعور بالثقة والاطمئنان نحو شخصيته ونحو الحكم الذي يصدر عنه. ولكي لا يكون هذا الحكم مصدر اضرار بمصلحة أحد طرفي النزاع دون الآخر فانه يتعين توخي الدقة الشديدة في اختياره. ولهذا فإن اختياره يتم عادة باتفاق المحكمين المعينين من قبل طرفي النزاع. فان لم يتفقا على ذلك يناط أمر تعيينه بجهة قضائية وطنية أو أجنبية أو دولية.
إجراءات سير النزاع أمام هيئة التحكيم
يقصد باجراءات سير النزاع تلك القواعد الاجرائية التي يتعين اتباعها بعد تشكيل هيئة التحكيم ولحين صدور القرار الفاصل في النزاع. وتختلف تلك الاجراءات باختلاف نوع التحكيم والجهة التي تضطلع به. فاذا ما نيطت مهمة التحكيم باحدى هيئات ومراكز التحكيم الدائمة فلا يكون لارادة الخصوم عندئذ دور حاسم في صياغة القواعد الاجرائية التي تنظم وتحكم اجراءات سير المنازعة. اذ يتضمن اللجوء الى هذه المراكز الدائمة ضرورة الاذعان للاجراءات المقررة في لوائحها. أما في "التحكيم الحر" حيث يضطلع أطراف النزاع بتعيين أعضاء التحكيم، فانه يكون لأولئك الأطراف دور رئيسي في صياغة القواعد الاجرائية أو في اختيار القانون الذي يحكم سير المنازعة، سواء كان هذا الاختيار صريحاً أو ضمنياً. كما يلعب قانون محل التحكيم دوراً احتياطياً في هذا الصدد.
على اننا نقتصر على بحث اجراءات سير النزاع في هذا النوع الأخير من التحكيم كونه الأكثر شيوعاً وانتشاراً في مجال تسوية المنازعات الاستثمارية.
* أولاً: التحديد الاتفاقي لاجراءات سير النزاع
يستطيع الخصوم في التحكيم الحر تنظيم سير النزاع أمام هيئة التحكيم وفقاً لقواعد اجرائية ترتبها اراداتهم. كما أنه يمكنهم أيضاً الاستهداء في ذلك بقواعد اجرائية يتم اختيارها من العديد من لوائح التحكيم، بحيث تصبح نظاماً جديداً لا يرتبط بهذه اللوائح. كأن ينظم الخصوم قواعد سير المرافعات أمام هيئة التحكيم ومكانها وميعاد تقديم المستندات وكيفية سماع الشهود واجراء التحقيقات والاستعانة بالخبراء الخ، واذا كان هذا هو الأصل فان قيام الخصوم بصياغة قواعد اجرائية مفصلة تحكم سير النزاع يعد أمراً غير مألوف في الواقع العملي. ويرجع ذلك، حسب تقديرنا، الى عدم امكانهم توقع كافة المسائل التفصيلية التي يثيرها سير النزاع أمام هيئة التحكيم. لذلك فان الصياغة الاتفاقية لاجراءات سير المنازعة انما تنصب عموماً على بعض الأسس العامة. ثم يحدد الخصوم قانوناً وطنياً معيناً تسير على هداه اجراءات النظر في النزاع، سواء تم ذلك صراحة أو ضمناً.
* ثانياً: اختيار قانون وطني معين ليحكم اجراءات المنازعة
يلجأ أطراف النزاع في الغالب الى اختيار قانون وطني معين ليحكم وينظم اجراءات التحكيم. وفي حالة غياب مثل هذا الاختيار الصريح فانه يتم اللجوء الى قانون دولة مكان التحكيم. ويتأسس ذلك في الواقع على تفسير الارادة الضمنية أو المفترضة لأطراف النزاع تبعاً لاختيارهم لمكان التحكيم. بالاضافة الى ذلك فان هذا القانون قد يكون أكثر ملاءمة لاجراءات سير النزاع بوصفه قانوناً محايداً أو لأنه قانون دولة المحكم الذي يكون أكثر الماماً به.
*ثالثاً: حرية هيئة التحكيم في اختيار القواعد الاجرائية التي تحكم سير النزاع
قد لا يتفق الخصوم على القواعد التفصيلية التي تحكم اجراءات سير النزاع، وقد لا يختارون قانوناً معيناً ليحكم تلك الاجراءات. وفي مثل هذا الافتراض فانهم يتركون هذا الأمر لهيئة التحكيم التي تحدد هذه الاجراءات في ضوء ما تراه مناسباً بخصوص النزاع المعروض عليها. ويكون للمحكمين في هذا الفرض سلطة تحديد الاجراءات القانونية التي تنظم سير النزاع، بشرط ألا تتضمن هذه الاجراءات اخلالاً بحقوق وضمانات الدفاع وألاّ تخل بالمساواة والعدالة بين الخصوم. ويلاحظ هذا الاتجاه في الواقع في الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية لسنة 1980 التي تقرر بأن تفصل هيئة التحكيم في كل المسائل المتعلقة باختصاصها وتحدد الاجراءات الخاصة بها.
*المبحث الثالث
*قرار التحكيم
تنتهي اجراءات التحكيم عموماً باصدار القرار وتبليغه الى الأطراف، وعندئذٍ تتخذ الاجراءات الخاصة بتنفيذه. لذا فان دراسة قرار التحكيم تقتضي منا أن نتناول بالبحث أولاً اصدار القرار ثم نتولى وفي فقرة ثانية دراسة تنفيذ القرار.
*المطلب الأول: اصدار قرار التحكيم
لا يصدر قرار التحكيم في الواقع الاّ بعد استنفاد ما لدى الأطراف من أقوال وبحيث تكون الدعوى مهيأة للحسم. ثم تقوم هيئة التحكيم بعد ذلك بدراسة القضية وتدقيقها بغية اصدار القرار في الوقت الذي حددته عند اعلانها ختام المرافعة. ويكتب القرار عادة باللغة التي يتفق عليها أطراف النزاع. فان لم يتفقوا على لغة معينة فانه يتم الرجوع الى القواعد الاجرائية للتحكيم لمعرفة اللغة التي تستخدم في هذا الصدد. ويلاحظ أن كثيراً من الاتفاقيات الدولية والقوانين المقارنة تحدد مدة معينة ينبغي أن يصدر خلالها قرار التحكيم. وهو اتجاه جدير بالتأييد وذلك حتى لا يتراخى المحكمون في نظر النزاع فتضيع ميزة السرعة التي ينشدها أطراف النزاع من وراء اللجوء الى التحكيم. والأصل أن يتفق الطرفان المتنازعان على تحديد هذه المدة فان لم يتفقا على ذلك فانه يصار الى تحديدها وفقاً للقواعد القانونية التي تحكم اجراءات التحكيم.
وتذهب معظم الاتفاقيات الدولية وعقود الاستثمار الى ضرورة صدور قرار هيئة التحكيم بأغلبية الأصوات. ويكون هذا القرار نهائياً وملزماً بحيث لا يجوز الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن. ومع ذلك فان بعض الاتفاقيات الدولية تجيز على سبيل الاستثناء الطعن في قرار التحكيم اذا تأسس هذا القرار على أسباب مخالفة للنظام العام. مثل اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار لسنة 1965.
*المطلب الثاني: تنفيذ قرار التحكيم
Execation de la sentence Arbitral
يتضمن قرار التحكيم بصفة عامة الحكم على أحد أطراف النزاع واعطاء الحق للطرف الآخر. ويسعى هذا الطرف الأخير الى تنفيذ قرار التحكيم مما يستلزم اتخاذ الوسائل والضمانات الكفيلة بتنفيذه لكيلا يتجرد هذا القرار من فاعليته. بيد أن هذا التنفيذ قد يصطدم ببعض العقبات عندما يتعلق الأمر بتنفيذ قرار تحكيمي صدر في اقليم دولة أخرى غير الدولة التي يراد تنفيذ القرار فيها. وترجع تلك العقبات في الواقع الى اختلاف النظم القانونية والاجراءات الواجبة الاتباع للاعتراف بهذه القرارات وتنفيذها. اذ إن قرارات التحكيم لا تتمتع بقوة تنفيذية في أغلب الدول ومن ثم فانه ينبغي اضفاء الصفة التنفيذية على القرار التحكيمي أولاً من خلال تقديم طلب الى المحكمة المختصة في الدولة المطلوب التنفيذ فيها
الخليج-الامارات
1-3-2005