موازين القوى تتحرك تدريجياً لمصلحة "أوبك"
أهمية متزايدة لدول الخليج وحصة "أوبك" ترتفع إلى 50% من الإمدادات العالمية بحلول 2020
خلال الأشهر الستة الماضية وحدها أثيرت ثلاث مرات على الأقل فكرة طرح جزء من المخزون الاستراتيجي لدى الدول المستهلكة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من أجل العمل على خفض سعر برميل النفط بعد ارتفاعه إلى مستويات غير مسبوقة. والواقع أن هذا المخزون قد أتى ضمن عدد من السياسات التي اتخذتها الدول المستهلكة منذ منتصف السبعينات للتأثير على سوق النفط العالمي.
وتميزت فترة العشرين عاما الماضية بالتقلب الشديد في سوق النفط العالمي، إذ سيطرت الدول المستهلكة على هذا السوق خلال خمسة عشر عاما تمتد من منتصف الثمانينات وحتى أواخر القرن العشرين سيطرة شبه تامة على سوق النفط العالمي، الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن سوق النفط العالمي تحول إلى سوق مشترين لا سوق بائعين. ومع هذا فما أن حل القرن الحادي والعشرون إلا واستعادت منظمة الأوبك الكثير من نفوذها المفقود، وارتفعت أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها منذ بداية الثمانينات. كان عام 2004 عاما قياسيا من حيث مستويات الارتفاع في هذه الأسعار. والواقع أن لهذا التقلب ما يفسره، إذ كانت سيطرة الدول المستهلكة نتيجة لعدد من السياسات التي نفذتها تلك البلدان، إضافة إلى بعض التغيرات الموضوعة التي اتسمت بها السوق النفطية خلال هذه الفترة.
مجدي صبحي
خبير اقتصادي بمركز الدراسات السياسية بالأهرام
عوامل حولت السوق لصالح المشترين:
أدركت الدول المتقدمة المستهلكة للنفط خطورة "تعرضها" في هذا المجال الحيوي مع نجاح الدول العربية في فرض حظر على صادراتها النفطية في أواخر عام 1973 وارتفاع أسعار النفط بمقدار يزيد على أربعة أمثاله مرة واحدة. ولذلك سارعت الدول المتقدمة إلى تأسيس ما يعرف بوكالة الطاقة الدولية واتباع عدد من السياسات لتقليص اعتمادها على النفط المستورد عامة، والنفط الخليجي خاصة ونزع سيطرة الأوبك على أسواق النفط بما يمنحها حرية تحديد أسعاره. وقد كانت أهم تلك السياسات المتبعة هي:
أولاً: التوفير في استهلاك الطاقة، حيث هبط المعدل السنوي للنمو في استهلاك النفط للدول الصناعية أعضاء منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (24 دولة في ذلك الوقت ارتفعت إلى 26 حاليا) من 3% بين عامي 1965 و 1980 إلى 1% فقط بين عامي 1980 و 1988.
ثانيا: سعت الدول المستهلكة إلى التنويع في هيكل الطاقة المستهلكة، حيث انخفضت حصة النفط في إجمالي الطاقة المستهلكة إلى 7.42% فقط عام 1989 بعد أن كانت تزيد على 50% في منتصف السبعينات. ومثلت الطاقة النووية أهم البدائل المستخدمة في هذا التنويع حيث تضاعف المستخدم منها بحوالي عشرين مرة بين أوائل السبعينات ونهاية الثمانينات لتزيد نسبة الاستهلاك العالمي من الطاقة النووية إلى جملة الطاقة المستهلكة من 8.0% في عام 1973 إلى 6.5% في عام 1989.
ثالثا: سعت دول وكالة الطاقة الدولية إلى تهميش نفط الأوبك في السوق العالمي، حيث تكثفت عمليات البحث والتنقيب عن النفط خارج دول منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أدى في النهاية إلى انخفاض حصة الأوبك من الإنتاج العالمي من 4.53% في عام 1973 إلى 9.37% فقط في عام 1992.
لكن ربما كانت أهم القرارات التي اتخذتها دول وكالة الطاقة الدولية هي تلك المتعلقة بسياسات المخزون الاستراتيجي، حيث تم الاتفاق على أن تحتفظ كل دولة من دول الوكالة في أراضيها بمخزون إستراتيجي يقارب استهلاك ثلاثة أشهر كحد أدنى، واتفق على تداول هذا المخزون في لحظات نقص الإمدادات لأية أسباب خارج نطاق السوق (فرض حظر نفطي أو تعرض منتج كبير لحالة حرب أو أية معوقات أخرى تخفض من إنتاجيته على نحو كبير). وقد كان لهذا المخزون في بعض الأوقات إلى جانب المخزون التجاري لدى المصافي والشركات دور كبير في التأثير على أسعار النفط كما سنوضح لاحقا.
وقد كان من شأن هذه السياسات كلها أن تحول سوق النفط بدءاً من أوائل الثمانينات ليصبح سوقاً للمشترين وقد تضاعف ذلك مع ارتفاع نسبة النفط التي يتم تداولها عن طريق ما يعرف بالأسواق الفورية وأسواق التعاقد الآجل بدلاً من التعاقد المباشر كما كان يحدث سابقاً بين الدول المستهلكة ودول الأوبك المنتجة. وأصبحت من ثم قضية التحكم في سعر النفط غير واردة بالنسبة لدول الأوبك، وقد أسفرت المحاولة الأخيرة للمنظمة لاستعادة تحكمها في الأسعار (من خلال ما يعرف بحرب أسعار النفط في عام 1986 والتي هدفت إلى إقصاء المنتجين من خارج الأوبك) عن فشل ذريع حيث انهار سعر برميل النفط إلى أقل من عشرة دولارات لبعض الأوقات، وعانت دول الأوبك من ثم من انخفاض عائداتها الأمر الذي لم يشجعها أبداً على تكرار مثل هذه المحاولة مرة أخرى. وظلت الأوبك مستمرة في نفس السياسة التي بدأتها في مارس/ آذار 1983 بتحديد سقف إنتاج للمنظمة ككل، وتحديد حصص لكل دولة عضو ضمن هذا السقف في محاولة لتحقيق سعر مستهدف.
لكن سنوات نهاية العقد الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين كانت تمثل عودة عن هيكل السوق الذي تسيطر عليه الدول المستهلكة لصالح استعادة دول منظمة الأوبك الكثير من نفوذها المفقود، ومايعد وراء هذا التحول العديد من التغيرات التي انتابت بعض العوامل الموضوعية التي شهدتها وما زالت تشهدها سوق النفط. علاوة على تأثير بعض العوامل الذاتية المتمثلة في أن الأوبك كانت في واقع الأمر قد اكتسبت نضجا مع مرور الوقت وتراكم الخبرات، وأصبحت تجيد إلى حد كبير لعبة السوق الدولي، دون أن يترافق هذا بالضرورة بالدخول في مواجهة حادة مع الدول المستهلكة.
تحول كبير في سوق النفط العالمي:
منذ أواخر عام 1999 وبداية عام 2000 بدا أننا نشهد تحولا مهما في سوق النفط العالمي، ليس فقط لأن متوسط الأسعار المتحققة كانت الأعلى منذ منتصف الثمانينات، ولكن أيضا لأن سوق النفط قد اعتراه تغير أساسي نتيجة عودة منظمة الأوبك باعتبارها لاعبا رئيسيا في هذا السوق بعد فترة غياب طويلة تقلصت فيها قوتها. ويمكن القول بإيجاز إن المرحلة الأخيرة استعادت فيها الأوبك الكثير من نفوذها المفقود. وليس أدل على ذلك من أن متوسط سعر النفط خلال الفترة 2000-2003 شهد زيادة كبيرة حيث كان سعر برميل نفط الأوبك قد بلغ 6.27 دولار عام ،2000 وانخفض في عام 2001 إلى 12.23 دولار، ثم ارتفع إلى 36.24 دولار في عام 2002 واستمر في ارتفاعه ليسجل 1.28 دولار في عام 2003 ، وذلك قبل أن يحقق قفزته الكبرى في العام الماضي إلى ما يزيد على 34 دولار للبرميل، وهو أعلى متوسط لأسعار النفط عموما منذ أوائل الثمانينات. وهذا الوضع الجديد يعد نتيجة لبعض العوامل الموضوعية والتغيرات التي لحقت بالعوامل التي كانت سبب الضعف الهيكلي الذي اعترى منظمة الأوبك خلال الثمانينات:
فهناك أولا وقبل كل شيء العامل الموضوعي المتمثل في أن الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط يتسم بالتركز الشديد، فالاحتياطي الأكبر هو في داخل دول الأوبك (ما يزيد على 78% من جملة الاحتياطي العالمي). بل إن هناك تفاوتاً كبيراً بين هذه البلدان ذاتها، إذ تأتى المملكة العربية السعودية في المرتبة الأولى بحجم احتياطي يزيد على 8.262 مليار برميل (نحو 23% من جملة الاحتياطي العالمي) ثم نحو 115 مليار برميل في العراق، بينما يبلغ حجم الاحتياطي في إيران 250.133 مليار برميل، فالكويت بحجم احتياطي قدره 99 مليار برميل، ثم الإمارات بحجم احتياطي يبلغ نحو 8.97 مليار برميل، وبذلك فإن الاحتياطي في منطقة الخليج وحدها يصل إلى نحو 64% من جملة الاحتياطي النفطي المؤكد. ثم تأتي بعد ذلك فنزويلا باحتياطي يقدر بنحو 226.77 مليار برميل، فليببا باحتياطي قدره 39 مليار برميل، فنيجيريا باحتياطي يبلغ 255.35 مليار برميل. أما الاحتياطات من النفط في بقية دول الأوبك وهي الجزائر وإندونيسيا فهي أقل إلى حد كبير وذلك طبقا لتقرير منظمة الأوبك السنوي عن عام 2003.
وفيما عدا هذه البلدان الأخيرة، فإن حجم الاحتياطي الذي يعتد به لا يوجد سوى في روسيا الاتحادية (نحو 48 مليار برميل)، والمكسيك (27 مليار برميل)، وإلى حد ما بعض دول آسيا الوسطى. والأكثر أهمية هو أنه من المتوقع نضوب النفط في الدول المتقدمة المنتجة خلال فترة لا تزيد عن العقد بقليل. فطبقا لأرقام الاحتياطي والإنتاج فإن عمر الاحتياطي يتراوح بين 5-11 سنة في كل من المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد يزيد عمر الاحتياطي عن ذلك لكن على حساب الكمية المنتجة من الحقول القائمة بما يعني أن حاجة البلدان المستوردة ستزداد وستتحول بعض البلدان المصدرة إلى الاستيراد لتغطية حاجتها.
وما يهمنا من كل ما سبق هو الاتجاه العام، وهو يؤكد بناء على الحقائق القائمة أن أوضاع السوق في المستقبل تميل على الأغلب لصالح عدد محدود من البلدان المنتجة للنفط في العالم، ويأتي على رأسها بلدان الخليج. ومن المتوقع أن تزداد هذه الأهمية على مر الأيام حيث من المرجح أن دول منظمة الأوبك وطبقا للتوقعات الأمريكية ستقدم ما قد يزيد على 50% من جملة الاستهلاك العالمي من النفط في عام 2020 بإنتاج نحو 50 مليون برميل يوميا بناء على توقعات بأن الاستهلاك العالمي وقتها سيزيد على 100 مليون برميل يوميا على الأقل.
وإضافة لهذا العامل الموضوعي نجد أن عددا من العوامل التي مكنت الدول المستهلكة من السيطرة على الأسواق منذ منتصف الثمانينات وحتى بداية القرن الحادي والعشرين قد لحقها تغير كبير.
فرغم النجاح الكبير لسياسات ترشيد الطاقة في الدول المستهلكة، إلا أنه من الواضح أن هذا قد وصل إلى مداه الأقصى في الدول المتقدمة. إضافة إلى تزايد استهلاك بلدان تمت فيها عملية النمو الاقتصادي بشكل سريع للغاية خلال الثمانينات والتسعينات وخاصة بلدان مثل الصين والهند. وقد عمل هذا على تزايد نمو معدل الطلب على النفط بحيث أصبح يتراوح بين 5.1% إلى 2% سنويا خلال أغلب سنوات التسعينات، وزاد في العام الماضي على 5.2%. وحيث يقدر أن معدل نمو الاستهلاك خلال الفترة القادمة سيزيد في الدول النامية عن ثلاثة أمثال المعدل في الدول المتقدمة. وتقدر الولايات المتحدة أن دولة مثل الصين سوف تستورد ما بين 5-8 ملايين برميل يوميا بحلول عام 2020 مقارنة بنحو مليون برميل فقط يوميا في عام 2000. وتتكرر نفس الظاهرة في بعض البلدان الكبيرة مثل الهند وغيرها من البلدان وإن كان في حدود أقل من الصين. وتعتمد معظم هذه البلدان على منطقة الخليج بالتحديد لتزويدها بما تحتاجه.
ومن الواضح ثانيا أن جهود تنويع هيكل الطاقة المستهلكة، وبحيث يقل الاعتماد على النفط في هذا الهيكل قد واجهت هي الأخرى بالعديد من المشكلات. إذ يستمر الإحلال الوحيد المقبول بشكل كبير حتى الآن هو إحلال الغاز الطبيعي (باعتباره أقل تلويثا للبيئة) محل النفط. لكن بسبب نمو الاهتمامات البيئية في العديد من الدول المتقدمة فإن هذه الجهود قد شهدت اتجاها آخر بعيدا عن بعض أنواع الطاقة مثل المواد الصلبة (الفحم على نحو خاص). وإضافة لهذا السبب الهام فقد كان لحادثة المفاعل النووي شيرنوبل في عام 1986 أثره في عدم استمرار النمو في استخدام الطاقة النووية بنفس المعدلات التي شهدها العالم خلال النصف الثاني من السبعينات وخلال عقد الثمانينات. وهذا الاتجاه الأخير من المنتظر أن يتعمق أكثر خلال السنوات القليلة القادمة مع إعلان دول مثل السويد وألمانيا عن اتجاهها للاستغناء عن توليد الطاقة الكهربية استنادا إلى المفاعلات النووية، بل ووضع برنامج زمني لإغلاق المفاعلات القائمة. وكان لهذه التفاعلات أثر كبير في زيادة الاعتماد مرة أخرى على النفط في هيكل الطاقة المستخدمة بحيث استقر مرة أخرى عند 40% في عام 2000. هذا ناهيك عن عدم إمكانية إحلال النفط -حتى الآن- في قطاع هام مثل قطاع النقل. وهو القطاع الذي يقدر أنه يمتص نحو 40% من الاستهلاك الأمريكي الإجمالي.
لم يبق إذاً بشكل واضح أمام الدول المستهلكة خاصة دول وكالة الطاقة الدولية وشركاتها سوى استخدام المخزون (المخزون التجاري والاستراتيجي) بشكل يمكنها من أن تحافظ على بعض النفوذ في السوق النفطي، وبحيث يمكنها أن تفاوض الدول المنتجة عبر ورقة هذا المخزون من حين لآخر( خاصة المخزون الاستراتيجي)، أو الضغط بهذا المخزون بشكل مباشر على الأسعار لتخفيضها إذا رأت أن مصلحتها تقتضي ذلك وهو ما سوف نعرض له في الحلقة الثانية.
الخليج-الامارات
30-3-2005