إحـراق العلـم التركـي وإفـرازات المشـكلة الكـردية
رسالة أنقرة: عبدالحليم غزالي
** أظهرت واقعة محاولة حرق العلم التركي في مدينة مرسين جنوب البلاد خلال الاحتفالات بعيد النوروز وما أوجدته من ردود فعل, أن المشكلة الكردية اشبه بجرح مزمن لايزال ينزف منذ عشرات السنين ويبدو مستعصيا علي التضميد والالتئام.
والواقعة تتمثل في ان مجموعة من الصبية الاكراد قاموا بجر علم تركي علي الأرض تمهيدا لاحراقه اثناء مظاهرات الاحتفال بعيد النوروز الذي يحتفي به الاكراد كثيرا وكأنه عيد قومي ويطلقون عليه العيد المجيد حيث يطل كل عام مع بداية الربيع في تعبير عن البهجة بقدومه, وعلي الرغم من أن اعراقا اخري في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي تحتفل به, إلا انه في تركيا يأخذ طابعا سياسيا لافتا, ويبدو وكأنه تعبير سنوي عن الهوية الكردية, وهذا العام تحديدا ومع بدء تطبيق قوانين الانسجام مع الاتحاد الأوروبي اتسعت الاحتفالات بشكل لافت وابتعدت السلطات التركية عن أية ممارسات تقيد تحركات وتعبيرات المحتفلين بالنوروز, وحسب الرواية الرسمية فان شرطيا تمكن من انقاذ العلم من ايدي الصبية الذين لاتزيد اعمارهم علي15 عاما وقد حصل علي مكافأة فورية عبارة عن راتب عام كامل, ولم يثبت حتي كتابة هذه السطور ان هؤلاء الصبية تصرفوا وفقا لتخطيط مسبق من اية جماعات أو جهات كردية.
والمتأمل لعاصفة ردود الفعل في تركيا تجاه هذه الواقعة يستطيع ان يتبين الآتي.
* أولا: ان المؤسسة العسكرية كانت الاسرع والأكثر غضبا في البيان الذي صدر عن رئاسة اركان الجيش ولم يكتف بالادانة الشديدة للواقعة, بل حذر مما وصفه باساءة فهم صبر المؤسسة العسكرية وعدم تدخلها في التطورات السياسية للبلاد.
* ثانيا: ان الحكومة حاولت التقليل من أهمية خطورة الواقعة وهو ما جعلها عرضة لانتقادات من المعارضة ووسائل الإعلام, ويبدو أنها لم تحسن تقدير تداعيات المسألة ومدي حساسية المساس بالعلم في بلد مثل تركيا ينال فيها مكانة كبيرة ويتضح ذلك في تعليقه علي شرفات ونوافذ المنازل في المناسبات الوطنية.
* ثالثا: انه مما زاد ردود الفعل الغاضبة غياب العلم التركي عن مظاهرات الاحتفال بعيد النوروز في مدن منطقة جنوب شرق تركيا ذات الاغلبية الكردية في حين حمل عشرات الآلاف من الاكراد أعلاما ترمز للهوية الكردية من بينها علم حزب العمال الكردستاني المحظور وعلم جديد لمنظمة تم تشكيلها حديثا تحت اسم الاتحاد الديمقراطي بأوامر من أوجلان حسبما ذكرت مصادر تركية بالاضافة إلي صور أوجلان نفسه الذي يقضي عقوبة السجن مدي الحياة في جزيرة ايمرلي في بحر مرمرة غربي البلاد.
والحق اننا امام شعور بعدم الثقة متبادل بين الدولة والاكراد الذين هناك بينهم من يري ان الاصلاحات شكلية والدليل علي ذلك ما يعتبرونه تقييدا لتنفيذها, فالبث الاذاعي والتليفزيوني بالكردية الذي تقوم به الهيئة التابعة للدولة لايزيد علي ساعتين اسبوعيا والتعليم بلغتهم مقصور علي الدورات الخاصة وليس المدارس أو الجامعات.
* رابعا: ان رد الفعل الشعبي الواسع النطاق بين الاتراك تجاه الواقعة بالاقبال الشديد علي شراء الإعلام وحملها في مظاهرات واسعة النطاق في انحاء البلاد يعكس شعورا شعبيا بتعرض وحدة البلاد للتهديد وهذا يفاقم الحساسية في التعامل مع المشكلة الكردية ويقيد يد الحكومة, خاصة ان هناك مطالب اخري فيما يتصل بتحسين أوضاع الاكراد مثل اصدار عفو عام غير مشروط عن متمردي حزب العمال الكردستاني واعادة محاكمة أوجلان حيث تتحسب الحكومة لحكم قريب قد تصدره محكمة حقوق الانسان الأوروبية بهذا الشأن.
* خامسا: انه مما جعل الاتحاد الأوروبي علي خط النار حيث حملته بعض احزاب المعارضة مسئولية ما اعتبرته تجاسرا وانفلاتا في صفوف بعض الأوساط الكردية مشاركة دبلوماسيين من دوله في الاحتفالات بالنوروز في ديار بكر علي رأسهم سفير النرويج, الأمر الذي جعل بعض الساسة والكتاب يقفز إلي ماهو أبعد من ذلك بالقول بان الاتحاد الأوروبي يعمل علي تفكيك تركيا تحت ستار الاصلاحات التي يريد انجازها حتي تصبح مؤهلة لعضويته.
* سادسا: ان إعلان حزب الشعب الديمقراطي دهب وهو الحزب الكردي الوحيد المعترف به رسميا رفضه لمحاولة احراق العلم لم يقابل بارتياح من جانب المعارضة ووسائل الإعلام التركية, واعتبر محاولة لابراء الذمة تخلو من الاخلاص, والحقيقة التي يبدو من الصعب تجاوزها ان هناك انقساما حقيقيا وفرزا عرقيا في تركيا رغم الكثير من الشعارات, وحتي الساسة الاكراد المندمجون في الاحزاب ومؤسسات الدولة هناك من ابناء عرقيتهم من ينظر إليهم علي انهم طبقة متكسبة تحقق مصالح خاصة بادعاء الاندماج في الدولة والمجتمع, وانهم لم يساعدوا علي تغيير أوضاع سيئة اقتصادية واجتماعية في جنوب شرق تركيا ولم يضغطوا من أجل عملية تنمية, والأمر نفسه بالنسبة لحكومة حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية الذي كان احد وعوده الانتخابية تحقيق هذه العملية.
ومجمل القول إن المشكلة الكردية لم تحل عسكريا ولاسياسيا أو حتي اقتصاديا لتبقي هكذا مصدر خطر وافرازات سلبية لتركيا وتتحكم في بعض توجهاتها الخارجية, فالتقارب مع سوريا وإيران مطلوب لتطويق الاحلام القومية الكردية في ظل وجود اقليات كردية في البلدان الثلاثة, كما ان تنامي قدرات اكراد العراق وعلاقات واشنطن الوثيقة بهم مصدر خطر لانقرة التي تخشي أن ينتهي الأمر إلي إعلانهم دولة تشكل تهديدا لوحدة اراضيها, وهناك عامل آخر مثير للقلق هو بقاء مشكلة الآلاف من متمردي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق بلا حل في ظل رفض واشنطن القيام بإجراء ضدهم ودعوتها لحل سياسي للمشكلة الكردية في تركيا, وهكذا نحن امام تفاعلات تظهر هذه المشكلة المزمنة وكأنه قدر يصعب الفكاك منه وان علي تركيا ان تفاضل دائما بين السيئ والاسوأ في محيط من التعقيدات وربما المتاهات
الاهرام-مصر
30-3-2005