رسالة باريس : ليلى حافظ
قبل حوالي ثلاثة اسابيع من الاستفتاء التاريخي الذي سيجري في فرنسا يوم29 مايو الحالي حول مشروع الدستور الاوروبي الجديد, الذي يعتبر مرحلة حاسمة في تاريخ الاتحاد, انقسم الشعب الفرنسي الي نصفين متساويين ما بين مؤيد ومعارض. فقد أشارت استطلاعات الرأي التي نشرت يوم5 مايو إلي ان نسبتي المؤيدين والمعارضين وصلت الي50%, لكل منهما مما يشير الي ان كل الاحتمالات مازالت مطروحة, وان علي كل جانب توخي الحذر خلال الأيام القليلة المتبقية, وشحذ كل طاقاته في الحملة التي شنها بكل شراسة منذ نحو شهر.
ولكن ان كان فتح باب الحوار والمناقشة علي مصراعيه في الشهر الاخير حول مشروع الدستور الاوروبي الذي صاغته لجنة مشتركة رأسها فاليري جيسكار ديستان في فبراير عام2002, اعتبر خطوة إيجابية لشرح الدستور بكل تفاصيله وامام كل فئات المجتمع, الا ان تردد الفرنسيين اثار مخاوف فرنسا واوروبا من احتمالات رفض الدستور. ولكن بدأت الدولة حملتها برفض هذا الاحتمال تماما, لأن فرنسا هي المؤسسة الاولي لفكرة الاتحاد الاوروبي منذ عام1957, وشعبها في اعماقه اوروبي.
ولكن هذه القناعة التامة ليست كافية علي ارض الواقع, لأن في ذلك الحين كان الواقع يشير الي ان55% ممن شملتهم استطلاعات الرأي يرفضون اوروبا. فكان لابد للمعسكر المؤيد للدستور سواء من اليمين أو اليسار ان يبدأ العمل جديا ليشرح أهمية الدستور وخطورة الرفض.
عندما قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك للشباب في لقائه معهم يوم14 أبريل الماضي علي الهواء مباشرة لا تخافوا, وضع أصبعه علي المشكلة الانسانية التي جعلت جانبا كبيرا من الناخبين الفرنسيين يتردد لاول مرة في تبني قرار يخص الاتحاد الاوروبي ومن هذا بدأت الحملة للاستماع للناخب الفرنسي وشرح الدستور شرحا وافيا.
وتتوالي التساؤلات: مم يخاف الفرنسيون اليوم؟ وما هي استراتيجية كل جانب من المؤيدين ومن المعارضين في الحملة التي تشهدها فرنسا حاليا؟ وما هي احتمالات ونتائج الاجابة بنعم أو بلا؟.
مم يخاف الفرنسيون؟
كان اكثر ما اثار دهشة المراقبين نتائج استطلاعات الرأي خلال الشهر الماضي فبعد ان ظلت نسبة المؤيدين في تقدم مستمر الي ان وصلت الي60% في بداية شهر مارس الماضي, وخلال اسبوع واحد انهار مؤشر التأييد وارتفع ذلك الذي يشير الي المعارضة فاعترض بعضهما بعضا وتجاوز مؤشر المعارضين, مؤشر المؤيدين وظل مؤشر المعارضة متقدما خلال أسبوعين وفي23 استطلاعا منشورا الي ان وصل الي أقصاه ليحصل جانب المعارضة علي55% في منتصف شهر أبريل.
كانت فترة الاسبوعين الاخيرين من شهر ابريل من اكثر الفترات صعوبة, وكانت بمثابة ناقوس الخطر. وبدأ البحث عن الاسباب التي دفعت الفرنسيين إلي ان يعبروا عن رفضهم للدستور الاوروبي في تلك الفترة وبشكل مفاجئ, فأشارت المصادر السياسية الي انه صادف في الفترة التي طرح فيها مشروع الدستور الاوروبي, ان تدخلت عوامل اخري عديدة ادت الي ارتفاع مؤشرات الرفض فجأة, من اهم تلك العوامل طرح عملية بولكيشتاين او المشروع الذي اطلق عليه في فرنسا اسم فرانكشتاين لأنه يهدد بإقامة اوروبا الليبرالية, التي يرفضها اغلب الفرنسيين, من خلال خصخصة كل انواع الخدمات, ففي قطاع الصحة علي سبيل المثال يمكن لأي طبيب ان يعمل في أي دولة دون الالتزام بقوانين الدولة التي يعمل فيها, وبذلك يتم الغاء القوانين الوطنية التي تناسب كل دولة في تلك القطاعات.
وبالنسبة للفرنسيين فإن المشروع يهدد فرص العمل والتنوع الثقافي أو التميز الثقافي الذي تعمل فرنسا علي حمايته بالاضافة الي تأثيره علي قطاع التعليم ايضا. واعتبر المواطنون ان المشروع سيحول الخدمات وسوق العمل والثقافة والتعليم الي سلعة تستهدف الربح فقط.
وفي مجال المكتسبات الاجتماعية, اعرب اليساريون عن مخاوفهم من ان يؤدي التصديق علي دستور واحد للاتحاد الاوروبي إلي ان تضطر فرنسا الي الاستغناء عن عدد من مكتسباتها مثل تحديد عدد ساعات العمل بـ35 ساعة أسبوعية, لتفرض عليها68 ساعة, ومثل مبدأ العلمانية الذي يطبق في فرنسا منذ عام1905.
لذلك ارتفعت مؤشرات رفض الدستور في استطلاعات الرأي خاصة بين اليساريين وعلي الجانب اليميني المتطرف, أي الجبهة الوطنية التي يتزعمها جان ماري لوبن, والذين أثاروا المخاوف من القضاء علي السيادة الفرنسية.
الاستراتيجية السياسية في الحملة
التغيير في توجهات الشعب الفرنسي قبل شهر ونصف شهر من الاستفتاء علي مشروع الدستور الأوروبي, أدي الي تغيير في استراتيجيات المؤيدين من اليمين الحكومي واليسار الاشتراكي.
وبدأت الحملة الرسمية في4 أبريل الماضي, فألغي معظم الوزراء مثل ماري اليو ماري وزيرة الدفاع, وكلود هانيري سكرتيرة الدولة للشئون الاوروبية, ونيكولا ساركوزي رئيس حزب الاتحاد من اجل حركة شعبية الحاكم, وغيرهم, ارتباطاتهم الخارجية, وخصصوا وقتهم كله للداخل, وقرر الرئيس جاك شيراك دخول الحملة من خلال عدة لقاءات بدأت بحوار مع الشباب علي القناة الأولي بالتليفزيون الفرنسي ثم لقاء صحفي علي القناة الثانية, قبل اللقاء الاخير المقرر قبل اسبوع من الاستفتاء, كما قرر ليونيل جوسبان رئيس الوزراء ورئيس الحزب الاشتراكي السابق الخروج من عزلته السياسية والعودة الي الساحة ليعيد النظام الي صفوف حزبه المنقسم.
فما هي الاستراتيجية التي سار عليها الجانبان؟ لقد تأكد الجميع ان السبب الاساسي في سلبية نتائج الاستطلاعات خلال شهر ابريل, هو عدم فهم المواطن الفرنسي اهمية الدستور الاوروبي والمرحلة المهمة التي تبدأ معه بالنسبة لمستقبل الاتحاد ككل. فلم يهتم معظم الناخبين بقراءة نص الدستور, ولم يعمل السياسيون والمفكرون علي شرحه وتقديمه اليهم كما يجب, فكانت النتيجة ان عددا كبيرا من الناخبين خلط الامور بين الدستور وقضايا اخري, وعددا آخرا لم يستطع أن يحدد موقفه منه فظل بلا رأي.
لذلك كانت اول خطوة هي الحوار وشرح الدستور, وشرح اسباب الموافقة عليه, فتم تنظيم حلقات حوار مع كل فئات المجتمع من الشباب الي المرأة الي المزارعين, وعقدت حلقات حوار في الجامعات والمسارح العامة والهيئات الرسمية, والجمعيات الاهلية والمنظمات المدنية, من باريس الي كل مدينة كبيرة من مدن فرنسا, ودخل الاعلام الي الساحة, فخصصت كل جريدة صفحتين يوميا لتقديم وجهات نظر المفكرين والمتخصصين والسياسيين عن الدستور, والآراء المتضاربة حول اهمية او خطورة المشروع الجديد, كما خصصت وزارة الخارجية الفرنسية ارقاما هاتفية خاصة لكل من يبحث عن اجابة علي تساؤلات خاصة بنص الدستور وتم توزيع النص علي كل الهيئات والجامعات وصناديق البريد في المنازل, وفي نفس الوقت صدرت كمية هائلة من الكتب حول الدستور الأوروبي, كل ذلك حتي ينتفي أي مبرر للجهل بالدستور.
وعلي الجانب الاشتراكي, ظهرت شخصيات اشتراكية قوية ذات شعبية كبيرة مثل روبير بادنتير عضو مجلس الشيوخ, وجاك ديلور رئيس المفوضية الأوروبية سابقا, ولكن الاهم من هذا وذاك كان خروج ليونيل جوسبان رئيس الوزراء ورئيس الحزب الاشتراكي السابق من عزلته السياسية التي فرضها علي نفسه منذ هزيمته في الانتخابات الرئاسية في أبريل عام2002, وعودته الي الساحة يساند فرانسوا هولاند, رئيس الحزب الاشتراكي الحالي في محنته, وأول اختبار حقيقي لقدرته علي القيادة وممارسة سلطاته, فظهر جوسبان في اجتماعات حزبية مع اعضاء الحزب الاشتراكي, يدافع عن الدستور, ثم قام بأكبر ظهور له عندما عاد الي التليفزيون لأول مرة منذ ثلاث سنوات, يتحدث عن الدستور وضرورة مساندته, فكان لعودته اثر كبير لدي اليسار, وبدأت مؤشرات التأييد ترتفع مجددا.
نعم.. من أجل فرنسا
من أجل إقناع المترددين والرافضين, ركز المؤيدون للدستور حملتهم علي ثلاث نقاط اساسية: الاولي الفصل بين الدستور والصراعات الحزبية, والثانية التأكيد علي تقوية وضع فرنسا داخل أوروبا وتقوية أوروبا في العالم, والثالثة أهمية اتخاذ القرار الآن, والآن فقط.
حرص مؤيدو الدستور من اليمين ومن اليسار علي الفصل بين التصويت من اجل الدستور الاوروبي وبين الحملة الانتخابية الرئاسية التي لن تجري الا في عام2007, والفصل بينه وبين الخلافات الحزبية التي تهيمن علي اليمين واليسار, ففي لقائه مع اعضاء الحزب الاشتراكي, دعا ليونيل جوسبان رئيس الحزب السابق في خطابه بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام علي تأسيس الحزب الي العودة الي النظام واتهم الاعضاء الرافضين, بالعمل علي كسر وحدة الحزب, ودعا الجميع الي احترام نتيجة الاستفتاء الذي تم داخل الحزب في الخريف الماضي.
وعلي شاشات التليفزيون في27 أبريل الماضي, دعا جوسبان اليسارالي الفصل بين غضبهم ازاء سياسة اليمين وبين أوروبا, موضحا أنه في يوم29 مايو الحالي سيوجه المواطنون أصواتهم الي شركائهم الأوروبيين وليس الي جاك شيراك.
في نفس الوقت أكد الرئيس شيراك ان الدستور الأوروبي ليس يمينيا أو يساريا, ولكنه ضمان كبير ضد الليبرالية المطلقة, كما أشار الي ضرورة عدم الخلط بين الاستفتاء وبين السياسة الداخلية, فإن الاستفتاء ليس موعدا لإجراء تغييرات سياسية في الحكومة. وعزل نفسه عن نتيجة الاستفتاء فقال: لا أعرف ان كان رفض الدستور سيكون بمثابة هزيمة لي, ولكنه بكل تأكيد هو هزيمة لفرنسا.
وحول أهمية تقوية وضع فرنسا في اوروبا في العالم, اكد جوسبان ان التصويت ضد الدستور سيكون بمثابة معاقبة فرنسا واوروبا, وليس معاقبة السلطة الحاكمة, لأن في نظره التصويت ضد الدستور سيضع التقدم الأوروبي في أزمة, أما فرنسا فسوف تعزل.
ومن جانبه اتخذ الرئيس شيراك نفس الخط في لقائه علي التليفزيون, مشيرا الي ان الدستور الاوروبي هو ابن عام1989 عام سقوط حائط برلين, وابن عام1789 عام الثورة الفرنسية, فاستطاع بذلك ان يعطي الدستور صفته الأوروبية واهميته الفرنسية. وفي نفس الوقت اكد ان عزلة فرنسا ستعني انها لن تستطيع الدفاع عن مصالحها بعد ذلك, سواء في اللجان الأوروبية او في قمم الدول الصناعية الكبري او في الامم المتحدة. ولن تستطيع الدفاع عن مصالحها امام ازمة تجارية مثل تلك التي نشأت مع اغراق سوقها بالنسيج الصيني. وحذر شيراك من ان رفض الدستور الاوروبي سوف يعني ان تبقي فرنسا واوروبا في الماضي.
وأخيرا أكد الجانبان ان يوم29 مايو هو الفرصة الوحيدة التي يمكن من خلالها تأكيد المسيرة الاوروبية, لأنه في حالة رفض فرنسا المشروع فلن تكون هناك اعادة تفاوض علي نص جديد, وليس هناك خطة ب اي لن تكون هناك سياسة جديدة لإجراء تغييرات علي النص المطروح.
ان التغيير الذي حدث في مؤشرات استطلاعات الرأي منذ بداية مايو الحالي يعني بكل تأكيد ان الحملة قد آتت بثمارها, فإن صعود مؤشر التأييد يشير حسب المصادر المطلعة الي ان المواطنين بدأوا بالفعل يدركون اهمية الدستور, ويري البعض ان الوصول الي50% من الاصوات افضل من النسبة التي اظهرها اول استطلاع في بداية شهر ابريل والتي اشارت الي ان60% ممن شملهم الاستطلاع يؤيدون الدستور, لأن الـ50% الحالية أبدوا تأييدهم عن قناعة وفهم حقيقي لما يعنيه الدستور الاوروبي. كما اشارت الاستطلاعات الي ان نسبة المشاركين ايضا ارتفعت, ومن المتوقع ان تصل في يوم الاستفتاء الي ما بين60 و70%. وهي نتيجة لتفجر حوارا مستمرا وعميقا ومكثفا, في كل الاوساط الثقافية والفكرية والدراسية والاجتماعية لم تحدث من قبل, شاركت فيه كل الشخصيات السياسية سواء من الرافضين او المؤيدين, التي خرجت كلها الي الساحة, لكي تأخذ موقفا وتعبر عنه, ولكن الجميع علي قناعة بأن ذلك لا يعني ابدا إلقاء السلاح
الاهرام-مصر
10-5-2005