كانت مفاوضات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالموازنة تأخذ دائماً توجهاً يسهل التنبؤ به فهي عبارة عن حصاد اشهر من الصراع بين الدول الفقيرة والأخرى الغنية في الاتحاد الحصاد الذي يدرس ويبت فيه بين ليلة وضحاها.
وينتهي الصراع وتضع حرب الموازنة أوزارها عادة بمجرد موافقة المستشار الألماني على فتح دفتر شيكاته ليعوض من جديد عن ماضي دولته الميال للنزاع.
ولا يختلف المشهد اليوم كثيراً عما كان عليه في قمة برلين عام 1999 وهي آخر مرة اجتمع فيها قادة الاتحاد الأوروبي ليتفقوا على سبل تمويل وانفاق موازنة السنوات السبع المنصرمة. لكن اجتماع بروكسل يبدو مختلفاً وإلى حد بعيد عن المفاوضات التي انتهت في الساعة الخامسة من صباح يوم 26 مارس/آذار 1999 في فندق انتركونتيننتال برلين، فقد اوضح جيرهارد شرودر المستشار الألماني أن ما حدث في تلك الليلة لن يتكرر هذا العام، وأن ألمانيا ستتوقف عن لعب دور بقرة الاتحاد الأوروبي الحلوب.
ولا يقف الأمر عند حدود ألمانيا فحسب فهناك أصوات عدة تتصعد للمعارضة والمطالبة بفرض حدود صارمة على الموازنة الأوروبية والجديد هذه المرة أن الدول الغنية التي تقع على كاهلها أعباء تمويل القسط الأكبر من الموازنة هي التي تقود الصراع لا الدول الفقيرة في الاتحاد كما كان الحال سابقاً، فاليوم تطالب النمسا وبريطانيا وفرنسا وهولندا والسويد بخفض الموازنة التي يتوقع ان تتجاوز 800 مليار يورو للفترة من 2007 إلى 2013 وستوظف غالبية هذه الأموال لمصلحة المزارعين والدول الأكثر فقراً في الاتحاد الأوروبي.وهناك وجه آخر للاختلاف بين قمة اليوم في بروكسل وقمة برلين ويتمثل في الاجواء التي تتم فيها المفاوضات هذه المرة، الأجواء الملبدة بالتوتر على الصعيد السياسي في أوروبا والتي ازدادت تلبداً في اعقاب تصويت فرنسا وهولندا بالرفض للدستور الأوروبي.
ويري توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ان الوقت الآن ليس مناسبا على الاطلاق لخوض مفاوضات الموازنة قائلاً إن التصويت بالرفض كان يفترض به أن يدعو قادة الاتحاد إلى اعادة التفكير في قضايا الاتحاد الرئيسية وبشكل راديكالي.
غير أن هناك عدداً من الاسباب المهمة التي تدعو إلى الانتهاء من مفاوضات الموازنة اليوم وأبرزها اخفاق الدول الاعضاء في الاتحاد في الاتفاق بخصوص تأجيل تحويل مليارات اليورو إلى الدول الأكثر فقراً في الاتحاد والمنتظر البدء فيه اعتباراً من يناير/كانون الثاني ،2007 وإلى جانب ذلك يرى العديد من قادة الاتحاد الأوروبي ان ابرام صفقة الموازنة هو تجاوب سياسي حيوي تجاه التصويت برفض الدستور الأوروبي.
وقال خوسيه مانويل باروسو رئيس المفوضية الأوروبية ان هناك اليوم حاجة إلى رد عملي لمواجهة المشككين في قدرة الاتحاد على الصمود.غير أن هناك العديد من العقبات التي يواجهها اليوم قادة الاتحاد مع سعيهم لوضع الأطر العامة للموازنة الأوروبية، وحتى ان نجح قادة الاتحاد في رسم الموازنة صبيحة يوم السبت فسوف يبرز امامنا سؤال بالغ الأهمية وهو هل يستحق الأمر بالفعل هذا العناء؟تمثل موازنة الاتحاد الأوروبي التي تقدر اليوم بنحو 100 مليار يورو سنوياً التجسيد البراق للوحدة الأوروبية وأحد أكبر اسباب تفاوت الأداء في أوروبا.
وفي مركز هذه الموازنة يبرز "صندوق التكامل" الذي يهدف إلى نقل الأموال من الدول الغنية إلى الأكثر فقراً في الاتحاد. وبحسب بيانات المفوضية فإن قيمة الصندوق تزيد على 300 مليار يورو على مدى السنوات السبع المقبلة، أي ما يعادل 35% من الموازنة، وستوجه هذه الأموال لمصلحة الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي إضافة إلى المناطق الاكثر فقراً في الاتحاد وتضم اسبانيا واليونان والبرتغال وايطاليا وألمانيا الشرقية.
وكالعادة سوف يثير توزيع اموال الصندوق الصراع نفسه بين الدول الغنية والفقيرة في الاتحاد، حيث تتساءل الدول الغنية عن سبب توجيه نصف أموال الدعم للدول الفقيرة في الوقت الذي تتوجه فيه بقية الدعم للمناطق الأكثر فقراً في دول الاتحاد الغنية، فعلى سبيل المثال ترى السويد ان قضية تمويل المناطق الأكثر فقراً في دولة غنية يجب ان تخضع لعلاج محلي داخل نطاق الدولة نفسها وهي بالتالي ان تزيد اعباء الاتحاد الأوروبي. غير ان مسؤولين من الاتحاد يرون ان من شأن مثل هذه الخطوة أن تؤثر على الوحدة الأوروبية.وتبقى قضية الدعم الزراعي الأبرز بين بنود مفاوضات الموازنة الأوروبية إذ تصل مخصصات الدعم إلى حوالي 377 مليار يورو. وتعتبر فرنسا صاحبة الفضل في صياغة السياسة الزراعية المشتركة للاتحاد المستفيد الأكبر من هذا الدعم إذ تحصل على نحو 7 مليارات يورو سنوياً، ومن المرجح ان يحتل الجدل حول مستقبل المعونات الزراعية مساحة كبيرة من الجدل الأوروبي حول الموازنة خاصة بين بريطانيا وفرنسا.
لكن هذا الصراع ليس بالجديد بل وبدأ في الاشتعال منذ الخمسينات من القرن الماضي أي لدى البدء في تأسيس مفهوم الوحدة الأوروبية، وعند انضمام بريطانيا إلى الاتحاد عام 1973 كانت سياسة الزراعة الأوروبية المشتركة قد تحولت إلى آلية فعالة لتحويل الأموال من ألمانيا إلى مزارعي فرنسا مقابل حصول ألمانيا على حقوق أفضل للدخول إلى أسواق فرنسا للسلع المصنعة،وقد حاول شرودر اقناع الرئيس الفرنسي جاك شيراك بالموافقة على اصلاحات جذرية للنظام الزراعي خلال قمة برلين عام ،1999 إلا أنه لم يتمكن سوى من احراز بعض التقدم، ومن جديد اضطر دافع الضرائب الألماني إلى تمويل الدعم الزراعي.
واليوم يرفض شيراك المضي في أي قرار لخفض المعونات الزراعية عن المستوى الذي أقره زعماء الاتحاد في بروكسل عام ،2002 ولعل شيراك على حق في مطالبه فعلى كل حال زعماء أوروبا الحاليون هم أنفسهم من وافقوا على سياسة الزراعة المشتركة والتي مهدت الطريق لانضمام الأعضاء العشرة الجدد إلى الاتحاد في 2004.
أما بلير فهو مصر على حق بريطانيا في مردودات الموازنة التي تقدر بنحو 4،6 مليار يورو سنوياً والتي أمنتها رئيسة الوزراء الحديدية مارجريت تاتشر عام 1984 وهو يؤكد ان ما تتلقاه بريطانيا أقل بكثير من اسهاماتها الصافية في الموازنة الأوروبية.ويسعى جاك كلود جانكر رئيس وزراء لوكسمبورج ورئيس القمة إلى ايجاد قاعدة توافق وتسوية محتملة بين قادة الاتحاد. وبالفعل قام جانكر بخفض مسودة الموازنة التي تقدمها المفوضية من 1000 إلى 871 مليار يورو إلى نحو 1،06% من اجمالي الناتج المحلي لأوروبا، مما يتوافق تقريباً ومطالب الستة الكبار في الاتحاد وهي: ألمانيا وهولندا والنمسا والسويد وبريطانيا وفرنسا.
وفي المقابل تبدي ألمانيا وفرنسا والنمسا بعض الاستعداد للتسوية، وكذلك فعلت اسبانيا وبولندا بعد ان ادركتا صعوبة الوصول إلى عرض أفضل.لكن ما زال هناك العديد من المصاعب والتحديات التي يتعين على جانكر مواجهتها، إذ أكد وزير الخارجية الهولندي ان مقترحات لوكسمبورج "غير مرضية" على الاطلاق، وحذر برلسكوني رئيس وزراء ايطاليا بدوره من احتمال قيامه باللجوء إلى حق الفيتو في حال أقرت الموازنة الجديدة خفض المعونات المخصصة لجنوب ايطاليا.
وعلى الرغم من تصاعد درجة التوتر السياسي في أوروبا على مدى الأشهر القليلة الماضية إلا أن أحدا على ما يبدو لا يرغب في التركيز على الهدف الذي من أجله توضع الموازنة الأوروبية، فمن الصحيح ان مخصصات دعم التنمية الريفية تعد كبيرة بالفعل إلا أن 40% منها لم يستخدم بالفعالية المطلوبة ولم تحقق بالتالي الأهداف المرجوة من ورائها.
وكانت المفوضية قد اقترحت ان يتم توجيه نصف المعونات الى الأعضاء القدامى في الاتحاد بما فيها ايطاليا، وتخطط المفوضية لاستثمار 121 مليار يورو سنوياً بهدف تعزيز التنافسية بما في ذلك الانفاق على الابحاث والنقل، لكن جانكر في اطار مساعيه لارضاء "الستة الكبار" قام بتخفيض هذا الدعم إلى 74 مليار يورو فقط، كما قرر كذلك خفض الانفاق على السياسات الخارجية والدواعي الأمنية.
وقال باروسو ان هناك العديد من التضحيات التي يتعين على الاتحاد الأوروبي اقرارها في سبيل تعزيز الاستقرار والنمو مشيراً إلى أهمية الانفاق على التوظف والتنمية وترسيخ مفاهيم الأمن والعدالة في الاتحاد. وقال ان زيادة الانفاق على هذه العناصر من الممكن ان تسهم في حفز أداء الاتحاد وأشار على سبيل المثال إلى أهمية الانفاق على نظام نقل أكثر تطوراً يكفل أكبر استفادة ممكنة من السوق المشترك.
وأوضح باروسو انه على الرغم من انحياز لوكسمبورج التي تقترح تخصيص 75% من الموازنة للدعم الزراعي والاقليمي من كل الجدل المصعد حول الموازنة إلا ان البعض يرى ان التوصل إلى أي اتفاق في ظل التوتر السياسي الراهن سيكون افضل من الاختلاف بين قادة الاتحاد.
الخليج-الامارات
17-6-2005