اسطنبول ـ سيد عبد المجيد:
رغم أن القسطنطينية مصطلح لا تجده إلا في كتب التاريخ ، ومدونا على الخرائط القديمة المحفوظة في المتاحف إلا أنها ما زالت تسكن أفئدة كثيرين ليسوا بالطبع من سكان الأناضول بيد أنهم يعيشون خارجه وقد توارثوا أساطير قديمة كرست لديهم فكرة أن المدينة مدينتهم وليست ملك العثمانيين أو أحفادهم من الأتراك، ودليلهم الماضي ورموزه فنابليون بونابرت ورغم يقينه بأن الاسم لم يعد هو نفسه إلا انه وحينما أراد أن يثني عليها تجاهل اسمها الأثير لدى العثمانيين ألا وهو اسطنبول قائلا: إنني لم أر أجمل من القسطنطينية!
أيا كان الأمر فهي لم تعد القسطنطينية كما أنها لفظت وإلى الأبد ماكان يطلق عليها اسم الأستانة، لكن المهم أنها ظلت عند جمالها الأخاذ•• ترى إلام يعود ذلك هل لخضرتها اليانعة أم لمعمارها الفريد أم لضفافها المنتشرة على بحر مرمرة أم لان البوسفور يشطرها إلى قسمين واحد في الشرق الأسيوي والآخر في الغرب الأوروبي أم أن جمالها الأخاذ يعود إلى كل ذلك مجتمعا• صحيح أن سحر المدينة يأتي من تكامل أركانها ورغم ذلك يظل (بوغاز) البوسفور علما بارزا على روعة جغرافيا اسطنبول •
نفحة نقاء
لهذا ومنذ أن عرفت البلاد السينما زحف إليها السينمائيون يسلطون كاميراتهم عليه بحيث يشكل خلفية لمضامين شتى تاريخية كانت أم اجتماعية أم رومانسية• بيد أن القادم الوافد على المدينة الكبيرة يمكنه أن يرى في نقاط كثيرة على تلك الضفة أو الأخرى المقابلة القلوب الحائرة تسكن الزوايا المتعرجة تبحث عن لحظات دافئة يحدوها أمل في أن تحمل نسمات الأمواج بعضا من مناجاتها• أما عن الأمسيات فالأنوار المتلألئة خير دليل على تدفق الحياة المستمدة من هذا الشريان وتلك لا تتوقف في الشتاء القارس فها هم البشر أنفسهم ستجدهم وقد تدثروا في معاطفهم يقفون لحظات تقصر أم تطول المهم يحصلون على نفحة من نقاء البوسفور والمنازل بواجهاتها الزجاجية ستجدها أيضا أيام البرودة القاسية تتوسل بين الحين والآخر نظرة الحياة مجسده في البوسفور•
وهكذا صار الممر المائي جزءا لا يتجزأ من حياة الملايين الذين يعيشون باسطنبول فالمياه المتلاطمة هي نفسها التي تحتضن المئات والآلاف يوميا ومنذ الصباح الباكر وحتى ساعات متأخرة من المساء ينتقلون من تلك الضفة إلى الأخرى، من هذا المرسى إلى الآخر من خلال العبارات والتي تسمى أتوبيسات البحر، ناهيك عن جسري البوسفور الشهيرين فبدورهما يصلان الشرق بالغرب في حركة مركبات ـ خاصة أم عامة ـ لا تهدأ على مدار الساعة• لكن طالما هناك بشر فالخطأ وارد، ذلك أن المشهد الخلاب لهذا الممر لا يعيش دائما في سلام وهدوء، فبين الحين والآخر ترتطم ناقلات ضلت الطريق بأي من ضفاف المضيق محدثة دمارا وخرابا• فالممر ومنذ أكثر من 300 عام بات لا يخص اسطنبول أو تركيا فحسب بل يخص حركة الملاحة الدولية، ونتيجة لذلك عقدت اتفاقيات دولية لحماية المرور البحري العالمي• فهو الوحيد في العالم الذي لا يوجد ممر آخر شبيه له فإذا ألقينا نظرة على ممرات المياه في العالم نرى أنه من الممكن إيجاد طرق بديلة فقناة السويس واحدة من أهم ممرات الاستراتيجية في العالم لكن عندما أغلقت بعد حرب 67 كانت السفن تمر من أماكن أخرى• نفس الشيء ينطبق على مضيق جبل طارق، وقناة بنما، ما عدا مضيق البوسفور وبحر مرمرة فبدونه لا يمكن الوصول إلى البحر الأسود والسواحل البحرية للدول المجاورة•من هنا تكتسب المضايق التركية أهمية استراتيجية بالغة فيكفي أن هذا الشريان جعل البحر الأسود بحرا ثالثا وليس بحيرة مثل بحيرة الخزر المساه قزوين أو مثل بحيرة وان التركية في جنوب البلاد• لكل هذا كان لا بد من إيجاد وسائل على مستوى عال من التقنية لتأمين حركة الملاحة واعتبارا من عام 1994 شرعت السلطات المعنية بتدشين سياسات جديدة استهدفت درء المخاطر من جانب والاستفادة المثلى من استخدام المضايق• وبعد دراسات وأبحاث مستفيضة بدأ الممر الملاحي يشهد عددا من التطويرات الهامة وبعد خمس سنوات من العمل الدؤوب ظهر مضيق البوسفور وكأنه في حلة جديدة بفضل المنارات الإرشادية المزودة بأحدث وسائل التقنية على طول الممر•
مضيق البوسفور والبيئة
صحيح أن الاقتصاد التركي يستفيد من وجود هذا الممر في الأراضي التركية مقابل الخدمات التي تقدم للسفن المارة من البحر الأسود إلى بحر ايجه غرب البلاد والعكس، بالإضافة إلى أنه شريان للنقل العام لا غنى عنه إلا أن تركيا ومع بدايات عقد التسعينيات باتت تواجه الأخطار المحدقة على البيئة جراء ما تحمله البواخر الدولية المارة بالمضايق فما نسبته 10 % من البواخر محملة بالبترول بالإضافة إلى المواد الكيماوية والغاز• وهنا نشير إلى الشهور الثلاثة الأولى من عام 2001 مر بمضيق البوسفور 31ألفا و 170 طنا من المواد الخطرة بمعدل 17 باخرة يوميا لكن كان أخطر ما في الأمر هو مرور سفن روسية محملة بالنفايات النووية بما آثار ردود فعل غاضبة لما سمي بالتجارة القذرة•
صحيح أن تركيا لا تستطيع منع السفن من المرور من مضيق البوسفور وفق المعاهدات الدولية إلا أنها وضعت ضوابط صارمة للتأكد من التزام السفن بالمعايير الدولية مهددة بفرض وفقا للقوانين المعمول بها في هذا الشأن
الاتحاد-الامارات
30-6-2005