CRI Online

يوميات مروان سوداح

cri       (GMT+08:00) 2011-12-30 16:03:02

بلاد السماء!- شنغهاي

في الصين يتكرر إسم السماء منذ غابر الأزمان، ويرمز الى عظمة الأمة الصينية وإعتزازها اللامحدود بنفسها وملوكها، الذين كان لهم الكلمة الفصل في توجيهها ووحدتها ومنعتها، وبقياداتها الحالية كذلك التي نقلتهم الى ذرى السماء، كما كانوه في غابر الدهور. هكذا كان، وهكذا سيبقى، إستناداً الى الموروثات التاريخية والثقافية وطبائع الحكم الصيني وقواعِده، المُستمدة من مصادر عديدة لعل في مقدمتها الدين والفلسفة. وإذ يتكرر هذا الإسم على شِفاه الصينيين، ويفاخرون النطق به، ويَخرج مِن فِيِهِ كل مواطن صيني، تلمس رغبتهم التأكيد عليك أنهم يبقون القوة الأولى، ويستمرون كذلك عددياً ومَقدرة وتنظيماً، وبأن لهم المستقبل الأرضي، كما لم يكن بهذه السرعات في تاريخ الإنسان وقدراته.

يحق للصينيين الإعتزاز بأنفسهم وحضارتهم، والإستمرار بما يعتبرونه أنهم يلامسون السماء بل ويسكنونها، بما وصلوا إليه عبر جهادهم السلمي الموصول بالعقل وعصارته- الفكر، منذ بدايات تشكيل الأمة واختراعاتها وفتوحاتها العلمية، فهم كانوا وما يزالون يسعون بخط صاعد الى الأعلى. ولأن السماء لا تنتج سوى الخير، ولأنها لا توزع على البشر غير الرشادة والحكم الرشيد، تبقى السماء في وعي الصينيين الجُدد كما كانت لدى القُدامى، حافزاً للتقدم، ومِثالاً يُحتذى، ليكون هؤلاء قابضون على مثالية في التعامل، وأخرى في إنتاج المفيد، ليبقى في الأرض، وليكتسب ما يمكن أن يُكتسب في خضم سعيهم الى إحتلال المكانة الأولى في العالم، إقتصاياً وتجارياً، وربما حتى سياسياً مع إنطواء الأيام والسنين والعقود.

فـ"تيان إن مين" الشهير،وتعني في اللغة الصينية "ميدان السماء" و"بوابة السلام السماوي"، وإذ هي الأوسع من نوعها في العالم قاطبة، وتقع في قلب بكين التقليدي، فقد واصلت الأمة الصينية منها إرتحالها الحديث إلى الأعالي. أما شنغهاي والتي تعني بدورها الأرض الجديدة، وهي كذلك منذ مئة سنة، تبقى الحاضرة الجديدة الأكبر والأعظم إقتصادياً على وجه البسيطة. انها عاصمة التجارة الأولى بلا منازع في الكون الفسيح، وقد حققت نجاحات متتالية في اكتساح العالم بعلومها، منتجاتها وسياستها الإقتصادية الناعمة، باعتراف خصومها الغربيين حتى.

السماء رسخت هي الأخرى في أسماء الأباطرة، خاصة لدى سلالة أسرة "هان" الملكية التي ينتمي إليها معظم الصينيين، منذ البدء. ويُحكى أن أحد أبناء سلالة "هان" لُقب "بإبن السماء"، ففي عهد أسرة "هان"، قبل أكثر من ألفي سنة، رأى الإمبراطور "ليو بانغ" أن أمه أنجبته من التنين، ومنذ ذلك الحين وُصف التنين أيضاً بأنه أبن السماء، وللتنين مكانة خاصة ولا يخبو بريقها ولا تُزال معانيها في الثقافة الصينية على مر العصور.

هنا ترى منذهلاً كيف أن شنغهاي ترنو الى السماء، ويَصعب على المرء وصف هذه المدينة، أو التعليق على واقعها، فلا تكفي الكلمات ولا الأوصاف، فكل تفاصيلها توحي بأنها قطعة من أعلى يصونها الباري ويطوّرها بنفسه وكأنها "بابل الجديدة"، وهو ما يشعر به الصينييون وبه يصفونها. فعلى جانبي نهرها الذي يقسّم المدينة الى شرقية وغربية، تقف ناطحات السحاب المضاءة تكشف أسرار المدينة بأضوائها الخلابة، وكأنها قبس نورانية، تخالها لا تَحسب كم أهدرت من الطاقة، فالأمر يتضاءل أهميته حين تختال أمام الزوار وتبرز محاسنها في مواجهة السياح، وهو ما أفسحه أمامنا القسم العربي لإذاعة الصين الدولية، الذي حرص وإدارته على عرض الواقع الصيني أمام وفدنا العربي الاردني المصري المشترك كما هو، لإستنتاج ما يمكن لنا استنتاجه بانفسنا كصحفيين، دون تعليق من جانب مرافقينا، خاصة مديرة القسم العربي الأستاذة فائزة تشانغ لي.

متلازمات صينيات

لماذا يهتم الصينيون بسلوكياتهم على الأرض الى أقصى درجة؟ ولماذا يُدقّقون بأقوالهم وغالباً ما تكون هادئة، ولماذا يحاولون جهدهم إتّباع التعليم القائل: إفعل كل يوم خيراً واحداً، لتضمن الحياة الأبدية؟. هذا ما سمعته أول من أمس من مديرة القسم العربي للإذاعة الصينية (فائزة تشانغ لي)، رداَ على سؤالي بشأن لافتات ملونة نشرت في ردهات وأروقة الموقع الذي زرناه، تعرض الى يد إنسان يُشير بإصبع واحد من أصابعه للأعلى، لذا فقد شدّني الأمر لمعنى الاصبع في الصورة خلال زيارتنا، الوفد الإعلامي العربي وكاتب هذه السطور، الى أحد المواقع في عاصمة الإقتصاد العالمي شنغهاي، في خضم إحياء الشعب الصيني لذكرى موتاه. فقد تدفق على الإحتفال المؤثر إنسانياً جموع غفيرة من الصينيين، وصل عديدها دون مبالغة الى عشرات الألوف، هادفين إستذكار الأباء والأبناء والأحبة، الذين سيلتحقون بهم بعد عمر مديد في الحياة الأخرى، وفي هذا اليوم يعتقدون أنه يُسمح للموتى بزيارة أقربائهم الأحياء على الأرض.

غالبية الصينيين يعتقدون، وفقاً لثوابتهم المُعلنة، أن الحياة تقوم على عقيدة أصلية ترتكز على تصورات هي: يتنقل الأحياء أثناء دورة كينونتهم من حياة إلى أخرى، ومن هيئة إلى أخرى: إنسان، شخص منبوذ أو شخص مُبجّل ومُحترم، والى غير ذلك. وتتحدّد طبيعة الحياة المُقبلة تبعاً للأعمال التي أنجزها الكائن الإنساني في حياته السابقة، ويُبعث الذين قدّموا أعمالا جليلة إلى حياة أفضل على الأرض مرة أخرى، فيما يعيش الذين أدوا أعمالاً خبيثة حياة بائسة، ويُحكم عليهم بالشقاء والأوجاع. عُرف المبدأ الأول بين الهنود والشرق آسيويين تحديداً، وفي أواسط آسيا وشمالها، منذ آلوف السنين. ويعتقد الصينييون أن حياتهم عموماً تضج بالمعاناة، وهي معاناة يومية تصنع لذّة، وأن الحياة الإنسانية ما هي إلا تعبيراً عن مرحلة قصيرة وانتقالية الى حياة أخرى، وتبقى في دورة حياة منتهية، يُحسم فيها مصير الشخص وفقاً لسلوكياته اليومية، وأعمال الخير أو الشر التي يقارفها ويدانيها منذ لحظات ولادته الأولى وحتى مماته، ككل الموجودات من الكائنات الحيّة، التي تشتعل فيها الأنا الذاتية والأزلية، وتتولّد الآلام والمعاناة في الإنسان جراء غياب الأنا العادلة، ولا يُشكّل موت الإنسان راحة له وخلاصاً من هذه الدورة الخطيرة، التي تتأثر بالشهوات الإنسانية وغالباً ما تكون الرغبة في تلبيتها هي أصل المعاناة. وهنا، يدنو نشاط إيقاف المعاناة الواعي وترويض النفس البشرية وكبح شهواتها، ويكتسب هذا بُعداً لازماً لتمجيد النفس وديمومتها ناصعة وشريفة تحظى بالأبدية، عن طريق إيقاف المعاناة، من خلال توظيف الفهم السوي في الحياة والممارسة اليومية، والتفكير السوي، والقول السوي، والفعل السوي، والترزق السوي، والجهد السوي، والإنتباه السوي، وأخيراً التركيز السوي، وهذه كلها يجب أن تتلازم مع الفضيلة والحكمة، ويتم الوصول إلى كل واحد منها عن طريق وسائل مختلفة، منها إتّباع سلوكيات أخلاقية صارمة، والإمتناع عن العديد من الملّذات، والتغلب على الجهل، عن طريق التمعّن الدقيق في حقيقة الأشياء، ثم إزالة الرغبات عن طريق تهدئة النفس.

كانت كل هذه المقدمة لازمة، لندرك بعمق طبيعة الثقافة الصينية المتوارثة لديهم منذ ألوف السنين، والمتمكنة في سلوكياتهم اليومية، ليس على مستوى الحياة الصينية الداخلية، بل وعلى المستوى السياسي الدولي أيضاً، حيث لا ترمي الصين الى إستعمار أي أحد، ولا ألى هرس العالم بجنازير دباباتها ولا الى مزاحمة ناسه، وهي ضرورية لإدراك لماذا يَمتاز الصينيون عموماً بالأخلاق الحميدة والنبل، والطيبة، ومبادئ إحترام الآخر، والرقي الأخلاقي ورفعة الإثيكس في نفوسهم. فقد لمسنا نحن الوفد العربي كم هم هؤلاء المرافقون لنا من المسؤولين بسطاء وشفافون، الى درجة يخجل معها الضيف من طلب شيء منهم، لأن المضيفين لا يتورعون عن فعل أي شيء لإرضاء الضيف، دون تأفف، وبلا أي معارضة أو إعتذار، وهو لعمري سلوك لا يمكن ان يصدر سوى عن شعب يتلازم النظام الأخلاقي وإيّاه في يومياته، ومنذ مولده كما في مبادئه، وفي مدرسته وجامعته دون انقطاع، فيكون هذا المجتمع الصيني والحالة هذه، مجتمعاً موحداً ومتقدماً، لذا نراه يَلد يومياً مئات العلماء والمكتشفين والخبراء، يَنشدْون مزاحمة بعضهم بعضاً، في ميادين السلام، لنيل الحياة الأبدية، عن طريق تعايش متكامل لمبادئهم في دواخلهم، كما أوصاهم الأجداد بها خيراً.


1 2 3 4
تعليقات
تعلم اللغة الصينية
حول القسم العربي